اخبار محلية, الاخبار, سياسية و اقتصادية, مقالات

الحضارة المسلوبة – بقلم الباحثة الفلسطينية جمانة الصالح

ـ الحضارة المسلوبة

ـ الباحثة الفلسطينية جمانة محمود الصالح

مدينة القدس القديمة: عُرف سكان القدس القدماء (باليبوسيين) وهم شعب كنعاني سامي سكنوا في منطقة القدس خلال الألف الثالث قبل الميلاد بعد هجرة العرب من شبه الجزيرة العربية، حيث استقروا في القدس و قاموا ببناء مدينة القدس القديمة بقيادة ملكهم (ملكي صادق) وأسسوا فيها حضارة مزدهرة، وقد واجهت مدينة القدس سلسلة من الغزاة كالرومان والبيزنطيين والصليبيين وغيرهم حتى فتحها العرب المسلمون بقيادة أبو عبيدة بن الجراح في عام 637م، وحرروها وطهروها من رجس الاحتلال وطغى عليها الطابع العربي الإسلامي في طراز العمارة والعادات والتقاليد، أما في العهد العثماني فقد كانت مدينة القدس مدينة عربية إسلامية أيضاً حيث قام السلطان سليمان القانوني – الذي بلغت الدولة العثمانية في عهده أوج قوتها وازدهارها- بتجديد سور مدينة القدس وترميمه وبقي على ذلك ولم يرمم منذ أربعة قرون ونيف، ضم السور سبعة أبواب، وبنيت الأحياء داخل سور مدينة القدس على ثلاث مرتفعات آنذاك وهي جبل الزيتون (الطور) في الشمال الشرقي من المدينة، وجبل موريا في الشرق، وجبل يبوس في الجنوب الغربي، فمنذ العصور الوسطى حتى منتصف القرن التاسع عشر تألفت مدينة القدس من المدينة المسورة والأحياء الموجودة داخل السور التي كانت عربية إسلامية، مع منشآت قليلة خارج الأسوار، مع العلم أن التقسيمات للأحياء (الحي الإسلامي، اليهودي، الأرمني) لم تكن موجودة سابقاً بل عرفت حديثاً منذ بداية الانتداب البريطاني الذي سعى إلى زرع التقسيمات الدينية والطائفية والعرقية، حيث تألفت الحارات على أساس السمات المشتركة قد تكون الدين أو الأصل أو القبيلة أو الانتماء فأفراد عشيرة بني زيد على سبيل المثال أنشؤوا حارة بني زيد الكائنة في الموقع المعروف اليوم باسم عقبة المولوية شرقي باب العمود، وكانت المناطق تسمى أيضاً تبعاً لمهنة أصحاب الدكاكين فيها كحارة الجوالدة “دباغي الجلود” أو بحسب معلم معروف كدير الروم أو خان الزيت، وجدير بالذكر أنه لم يكن لدى سكان مدينة القدس الرغبة في التوسع بالمدينة أو السكن خارج أسوار مدينة القدس القديمة والسبب الرئيس في ذلك هو الخوف من الانتداب البريطاني الذي كان يسعى إلى احتلال مدينة القدس والسيطرة على المقدسات، فأدرك العرب الفلسطينيون خطورة ترك المدينة الذي سيسمح للبريطانيين فرصة سلب بيوتهم وأملاكهم والقبض على القدس بيد من حديد ففي بداية القرن التاسع عشر كانت أبواب مدينة القدس تغلق ليلاً، وفي أثناء صلاة الجمعة أيضاً؛ لذا كان الحافز على ترك المدينة ضئيلاً، لكن مع ازدياد النمو في عدد السكان وتنامي الهجرة اليهودية ازدادت العوامل التي دفعت السكان للبناء خارج المدينة القديمة المسورة.

ـ لابد من الإشارة هنا إلى أن التوسع في مدينة القدس كان باتجاه الشرق والغرب حيث سكن العرب الفلسطينيون وبنوا بيوتهم ومحالهم، فالقسم الشرقي من المدينة الجديدة سكنه العرب الفلسطينيون، أما القسم الغربي فقد كان للعرب الفلسطينيين أيضاً قبل عام 1948، لكن بعد هذا العام عندما انتهى الانتداب البريطاني لفلسطين وتنفيذ وعد بلفور بمنح  فلسطين أرضاً لليهود الأوروبيين تم طرد العرب الفلسطينيين من القسم الغربي بعد قرار تقسيم فلسطين ومنح أراضي العرب من قبل بريطانيا إلى اليهود الصهاينة الذين قدموا من أوروبا وسيطروا على أملاك العرب الفلسطينين في القدس الغربية تحت حماية الدول الكبرى ودعمها، فبذلك أصبح القسم الشرقي للعرب والقسم الغربي من المدينة الجديدة لليهود الصهاينة، ولجأ 30 ألف فلسطيني من سكان القدس الغربية أنذاك بصورة مؤقتة إلى المدينة القديمة وإلى الضفة الغربية والأقطار العربية المجاورة بعد إرغامهم على مغادرة بيوتهم بعد القتال، ولم تكتفِ بريطانيا بذلك بل مهدت السبيل إلى وضع فلسطين تحت السيادة الصهيونية وتوفير كل الوسائل والقوانين لسلب أراضي الفلسطينيين وأملاكهم ومنحها لليهود بالتحايل والضغط والإجبار، إلا أن الفلسطينيين تنبهوا إلى ذلك وأدركوا المخططات الصهيونية ـ البريطانية، ومما يدل على أن العرب كانوا متيقظين فقد انعقدت عدة مؤتمرات فلسطينية مبكرة مما يدل على الوعي التام بالقضية الفلسطينية فطالبوا من خلالها برفض وعد بلفور والاستقلال. ناهيك عن الثورات التي اشتعلت ضد الانتداب البريطاني بعد أن تولى هربرت صموئيل اليهودي الصهيوني منصب المندوب السامي وبدأ في تنفيذ سياسته الرامية إلى تهويد فلسطين، بعد ذلك قامت القوات الصهيونية أيضاً باحتلال مدينة القدس الجديدة – أي المدينة التي تقع خارج أسوار القدس منذ عام 1948م – حيث تولت تنفيذ هذه الخطة الهاغاناه وأطلقت عليها اسم “كلشون (المذراة) بدأ تنفيذها في 13 أيار وكان هدفها التقدم في المناطق العربية والمختلطة على ثلاث محاور في اتجاه جنوبي القدس وشمالها ومركزها لإيجاد منطقة يهودية متماسكة تضم القدس الغربية حتى اسوار البلدة القديمة واحتلال الشيخ جراح للربط بينها وبين الموقع اليهودي الحصين المعزول في جبل المشارف.

من بعد عام 1967م بدأ التوسع الصهيوني غير الشرعي على حساب الأراضي العربية المجاورة فاحتل الكيان الصهيوني سيناء المصرية والجولان العربي السوري وتوسع في القدس الشرقية وقاموا بهدم حي المغاربة الملاصق للحائط الغربي المعروف (بسور البراق) وصادر البيوت والممتلكات في بعض الأحياء العربية وبدأ بالضغط على الفلسطينيين في القدس الشرقية بغية إجبارهم على مغادرة المدينة وخلق واقع جغرافي وسكاني واجتماعي يقوض اي محاولة مستقبلية للطعن في سيادة الصهاينة على المدينة، ولا بد من القول أن الكيان الصهيوني كان ومازال يسعى منذ قيامه على أرض فلسطين إلى توسيع مخططاته الاستعمارية وسلب المزيد من الأراضي العربية بغية تنفيذ ما يسمى مشروع (القدس الكبرى): الذي يقوم على احتلال مدينة القدس الشرقية والغربية ومدن رام الله وبيت جالا وبيت ساحور بالإضافة إلى خمس وأربعين قرية عربية بحيث يتم عزل مدينة القدس عن باقي الضفة الغربية لتصبح قسمين أحدهما شمال القدس ومركزه نابلس، والآخر جنوب القدس ومركزه مدينة الخليل التي تواجه هجمة استيطانية شرسة.

 ومن هذه الأحياء المستهدفة حي الشيخ جراح، وحي سلوان، فحي الشيخ جراح حي سكني يقع في القدس الشرقية خارج سور مدينة القدس القديمة فقد كان الحي منطقة توسع عربي إسلامي عندما تنامت مدينة القدس القديمة وازداد عدد سكانها وبنيت فيها منازل فخمة لعائلات الحسيني والنشاشيبي ونسيبة وجار الله وغيرهم، و يشكل جزءاً مما يسمى الحوض التاريخي أو الحوض المقدس المحيط بالبلدة القديمة حيث كان يسكن الحي في ذلك الوقت حوالي 28000 فلسطيني حسب إحصائيات عام 2010، ويضم العديد من مقار البعثات الدبلوماسية ومعالم معروفة مثل بيت الشرق وفندق الأميركان كولوني والمسرح الوطني الفلسطيني، ونظراً للموقع الإستراتيجي للحي بذلت جماعات المستوطنين جهوداً حثيثة في السنوات الأخيرة من أجل السيطرة على الأراضي والممتلكات العامة لإقامة مستوطنات جديدة في حي الشيخ جراح، ـ على الرغم من أن المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة تحظر إقامة مستوطنات ونقل سلطة الاحتلال لسكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها ـ ونتيجة لذلك فقد فقدت أكثر من ستين عائلة فلسطينية بيوتهم عام 2010م، ولا يزال هناك خمسمائة ألف مهددين بالطرد بالقوة ونزع الملكية والتهجير في المستقبل القريب، وسعت جماعات المستوطنين إلى شراء الأراضي والعقارات والذي يتم غالباً من خلال وسيط تضمن ذلك تهديدات أو خداع أو شهادات ووثائق مزورة، وفي السنوات الأخيرة بعد عام 2000م زاد نشاط المستوطنين في حي الشيخ جراح  الذي كان مصحوباً بدعم من قوات الاحتلال من خلال طرد السكان بالقوة.

أما حي سلوان فإنه يقع في الناحية الجنوبية الشرقية للمسجد الأقصى وهو أكثر الأحياء التصاقاً بسور مدينة القدس القديمة، يوجد فيه نبع سلوان الذي ينساب منه مجرى ماء بعد هطول الأمطار وفيه “عين أم الدرج في قرية سلوان وتعرف أيضاً بعين (ستنا مريم) وينزل إليها بوساطة درجات توصل إلى كهف طبيعي عند منتصف وادي جهنم وقد شبهت سلوان بماء زمزم فقد قال أبو العلاء المعري:

وبعين سلوان التي في قدسها      طعم يوهم أنه من زمزم

حيث ارتبط هذا النبع بالسيدة العذراء مريم، ويقال أنه كان جافاً فأجرى الله تعالى فيه الماء، وقد لجأت جماعات المستوطنين إلى وسائل متعددة من أجل تحقيق السيطرة على الأراضي والمباني في حي سلوان منها نقل الأراضي والممتلكات الفلسطينية التي صادرتها قوات الاحتلال من مالكيها الفلسطينيين أو الأردنيين بموجب قانون أملاك الغائبين لصالح جماعات المستوطنين أو نقل الأراضي التي صنفت كأراضي عامة أو أراضي دولة طبقاً لأهميتها البيئية والتاريخية أو الدينية لسيطرة جماعات المستوطنين حيث سلم الصندوق القومي اليهودي وهيئة الآثار الإسرائيلية إلى منظمة إلعاد الاستيطانية ثلث أراضي سلوان.

وقد استهدف الكيان الصهيوني احتلال الأحياء العربية الملاصقة للمدينة القديمة لاستكمال مشروعه الاستيطاني في جعل القدس عاصمة له ومدينة يهودية صهيونية خالية من العرب، ولتنفيذ مشروعه بدأ بسلب أراضي العرب الفلسطينيين في الأحياء العربية المجاورة للقدس كحي الشيخ جراح وحي سلوان، ومن المناطق التي استهدفتها جماعات المستوطنين في حي الشيخ جراح شملت:

1ـ منطقة كرم الجاعوني _قبر الصديق شمعون المزعوم: حيث طردت قوات الاحتلال منه 60 فلسطينياً من بينهم 24 طفلاً بالقوة عام 2009حيث لم تصدر محاكم قوات الاحتلال أحكاماً باتة بشأن ملكية الأرض وطرد العائلات على أساس عدم الامتثال لاتفاق تأجير وقعت عام 1982 وقعه محامي العائلات الإسرائيلي في ذلك الوقت مع المستوطنين دون موافقة العائلات

2ـ كبانية أم هارون: حيث أصدرت المحكمة الإسرائيلية العليا في أيلول عام 2010 حكماً لصالح جماعات المستوطنين تزعم ملكية الأرض قبل 1948 لرغبة في إنشاء مستوطنة جديدة بعد طرد 200 عائلة فلسطينية

3ـ فندق الرعاة: صادرته قوات الاحتلال عام 1967 والأرض المتاخمة له والتي تعود ملكيتها لعائلة الحسيني ثم باعته لاحقاً لجماعة المستوطنين 1985م بغية بناء مستوطنة جديدة.

4ـ كرم المفتي: استمدت هذه المنطقة اسمها من مالكها السابق مفتي القدس وصادرتها قوات الاحتلال وهي عبارة عن بستان زيتون نقلت ملكيتها في وقت لاحق إلى منظمة عتريت كوهانيم الاستيطانية، وعلى الرغم من أن المنطقة مصنفة كمنطقة خضراء حيث البناء مقيد فيها بدأت المنظمة عملية تمكنها من بناء مستوطنة تضم 250 وحدة سكنية.

5ـ مقر منظمة أمانا الاستيطانية التي جرى تخطيطها عام 2005م: حيث نقلت قوات الاحتلال قطعة من الأرض متاخمة لمستشفى سانت جوزيف في حي الشيخ جراح صادرتها في وقت سابق لصالح منظمة جوش أمونيم.

6ـ حرم مؤسسة حلا سمان التعليمية: قطعة خالية من الأرض تقع بجوار مركز الحياة الطبي تم الاستيلاء عليها وتخصصيها لبناء مؤسسة تعليمية دينية يهودية ممولة من ممولين كنديين

وكما نلاحظ ففي بداية عام 1948 كان هدف الكيان الصهيوني احتلال القدس الغربية، وبعد عام 1967 بدأ يتوسع ليحتل القدس الشرقية وما حولها، وسيستمرمستقبلاً بسلب الأراضي العربية  لأن سياسته قائمة على التوسع والاستعمار وتأسيس دولته المزعومة على حساب الأراضي والممتلكات العربية ضارباً بعرض الحائط القرارات الدولية وحقوق الإنسان.

إن عمليات الإخلاء والهدم المصحوبة بتخطيط لبناء وحدات سكنية للمستوطنين الصهاينة في قلب الأحياء الفلسطينية تساهم في فرض واقع التجزئة ضمن الأحياء الفلسطينية وإضعاف نسيجها المادي والاجتماعي والاقتصادي، فالفلسطينيون لم يخسروا أراضيهم ومتلكاتهم في القدس الشرقية فحسب بل خسروا عائلاتهم ومصدر رزقهم وصلاتهم بجيرانهم ومعارفهم، وهجروا وشردوا خارج القدس، وما تزال القوات الصهيونية بحماية دولية تسعى إلى تهجير العرب أصحاب الأراضي الفلسطينية وسرقة ممتلكاتهم ورمي أثاث منازلهم في الطرقات ليس هذا فحسب بل إجبارهم على نقل الأثاث ودفع غرامات على ذلك، ناهيك عن آثار التهجير المدمرة على أبناء الشعب الفلسطيني والتي تؤدي إلى الفقر المتزايد وتدني مستوى المعيشة على المدى الطويل بعد خسارة ممتلكاتهم وأراضيهم، والآثار النفسية المزمنة إثر سرقة البيوت علناً أمام صمت دولي مدقع، وتعرض الأحياء المجاورة للمضايقات وتقييد التحرك ضمن الوطن والتفتيت المستمر للأحياء العربية الفلسطينية والتمييز العنصري العرقي، والعيش على أرض الوطن كلاجئ.