أدبية، روائية و شعر, الادبية, مراجعات لكتب و قضايا اجتماعية, مقالات

“منصور” قصة قصيرة للكاتبة هند محمد على من المجموعة القصصية “قلبى لرجل وقف خلفه الرجال”

بقلم هند محمد، القاهرة – جمهورية مصر العربية

بين أحضان الطبيعة، ومع نسمات الهواء النقي، وعلى تغريد العصافير، وفي بيت من بيوت الريف المصري، نشأ منصور، صبي رقيق، ابن ريف أصيل، ذاق اليتم منذ ولادته وتولى شقيقه الأكبر راعيته.
كانت أسرته أسرة ريفية بسيطة، مستورة الحال، عفيفة النفس.
تربى منصور على الأصالة والرفعة، والأخلاق الريفية الطيبة، كان محبوبا من أهل قريته، فقد كانت طيبته والتزامه الديني سمات جعلت الجميع يكنون له الحب والاحترام رغم صغر سنه.
ورغم تولى شقيقه الأكبر أمره إلا أنه كان يميل لتحمل المسئولية، فكان يعمل في الإجازات الصيفية حتى يستطيع تدبير مصاريف دراسته.
كان متفوقا في دراسته واستطاع أن يحصل في الثانوية العامة على مجموع عالٍ، ودخل عامه الأول لكلية الهندسة التي كانت حلم حياته.
وفي أول يوم دراسته بكت الأم وانهمرت الدموع من عينيها، فرحة بتحقيق حلم صغيرها الذى قسى على نفسه وتحمل مشاق الدراسة والعمل، واستطاع أن يحافظ على تفوقه، كما سعد الأخ الأكبر الذي كان منصور له بمثابة ابنه وليس أخاه.
قضى منصور عامه الأول بين سعادة وفرحة بتحقيق حلمه، مع أصدقاء جدد أحبوه بصدق وأساتذة انبهروا بذكائه، فكيف لأحد أن يرى منصور أو يتعامل معه ولا يحبه أو يود التقرب منه.
كان يميل دائما أن يختلي بنفسه ساعة يومية على أحد جسور القرية، يسير بمفرده، يتأمل قرص الشمس الذهبي، ثم يعود إلى بيته يواصل مذاكرته.
ومضى عامه الأول واجتاز امتحاناته وكان التقدير العام امتياز، وكان عليه أن يبحث على عمل في إجازته الصيفية كما اعتاد.
كان منصور يرهق نفسه ويعمل أكثر من ستة عشر ساعة في اليوم، ولقد زادت المصاريف وزاد احتياجه، ولم يرغب في إرهاق أخيه بأعباء دراسته المرهقة.
كل يوم يزداد الأمر سوءا، فلاحظ أخوه أن صحته تسوء وأنه بحاجة إلى راحة، فطلب منه أن يكف عن العمل، وأن ينتبه إلى صحته التي هي عنده أغلى من أي مالٍ، واستراح منصور أسبوع ثم أكمل عمله حتى انقضت الإجازة، وعادت الدراسة من جديد وكان عليه أن ينتبه إلى دراسته ويكف عن أي عمل.
ومضت السنوات ومنصور محافظا على تفوقه، ووعده أساتذته أنه إذا استمر بنفس التفوق، فمكانه في الجامعة معيدا.
سعد منصور بشدة وكان عليه أن يختتم البكالوريوس بتفوق، وأن يقوم بإعداد مميز لمشروع التخرج، لكن منصور يبدو أنه أرهق نفسه زيادة عن القدر المطلوب.
ورغم أن البكالوريوس كان يحتاج تفرغا تاما، إلا أن احتياجه للمصاريف اضطره للبحث عن أي عمل لتوفير أي قدر من المال، لكن دون علم أخيه وأمه.
كاد منصور أن يجافي النوم، فليس لديه وقت، وكل وقته ضائع ما بين محاضرات ومذاكرة ومشروع تخرج وعمل.
لم يكن يفكر سوى كيف يجتاز البكالوريوس ويصل إلى مكانة أستاذ الجامعة، واصل ليله بنهاره، وبدأ الضعف والهزل يظهر على وجهه.
كانت صحته ضعيفة ومع المجهود ازدادت سوءا، ولم ينتبه يوما أن يذهب إلى الطبيب، فكيف والطبيب يحتاج مالا للكشف والدواء.
أنهى منصور امتحانات البكالوريوس وأنهى مناقشة مشروع تخرجه، وما إن حدث ذلك إلا وسقط مغشيا عليه وعندما قام أصدقاؤه لنقله إلى المستشفى.
رفض بشدة مطالبهم بتوصيله إلى بيته، ونزولا على رغبته، عاد إلى بيته، وانفطر قلب الأم لرؤية وليدها بهذا الحال، ومر يومان ولم تتحسن حالته الصحية، فقام أخوه باستدعاء الطبيب للكشف عليه، الذي بمجرد أن كشف عليه، انفعل كيف لهم أن ينتظروا كل هذا الوقت.
أخبره أخوه أنه ظن أنه مجرد إرهاق، لأن منصورأجهد نفسه في الامتحان والمذاكرة، وقال للطبيب، إن كانت حالته تستدعي نقله إلى المستشفى سيفعل على الفور، لكن الطبيب أخبره أنه فات الآوان وأن حالته تأخرت، ولم يعد أخيه بحاجة سوى للدعاء.
وتلقى الأخ الكلام بوجع وألم، ولم يستوعب ما حدث لأخيه، وكيف وصل إلى هذا الأمر .
وعند خروج الطبيب دخل صفوت صديق منصور بالجامعة الذي أتى ليطمئن عليه، أخبره أخوه بما قاله الدكتور.
فأخبره أن منصور أرهق نفسه وقام بالعمل بجانب دراسته ولم يرد أن يخبرهم بذلك، وأنه عندما علم
بالصدفة، طلب منه منصور أن يكتم السر .
وبعد ساعات من رحيل الطبيب، التف الأخ والأم إلى جوار منصور يقرأون له القرآن ويدعون الله أن يعفو عنه.
ويوم النتيجة الذي من المفترض أن يكون يوم السعادة وتحقيق الحلم، الذي طالما أجهد صحته من أجله، تم الإعلان عن نجاحه بتفوق وذهب كل أصدقائه ليبشروه بنجاحه وتعيينه معيدا بالجامعة.
لكن منصور كان مشغولا بمكانة أخرى، ألا وهي مكانته بالآخرة، فما أن وصل الأصدقاء وأخبروه بالنجاح إلا ولفظ أنفاسه الأخيرة، وتحول الفرح إلى حزن، وشهدت القرية جنازة لم تحدث من قبل ضمت الصغير والكبير والطفل والجامعة بأكملها أساتذة وطلبة، زفته بنات الحور إلى دار البقاء، وتهافت الجميع على حمل نعشه، وودعه الجميع إلى مثواه الأخير.