بقلم الكاتبة نور شاهين
وُصفت المازوشية بأنّها الرغبة والتوق إلى الألم (وأقصد هنا المازوشية بالمعنى النفسي). ويقول ميلان كونديرا في وصفه الأدبي: “أنا أتألم إذن أنا موجود”. إذًا هل الإنسان مازوشياً بقدر ما هو موجود؟ أقتبس عن مارك توين التالي: “يولد الناس، ويؤلم بعضهم بعضاً ثم يموتون”. الموت حسب وجهة نظر مارك توين يحمل معنيين، الأول هو المتعارف عليه، بتوقف الوظائف الحيوية للجسد، والآخر، موت الشغف بالأشياء والأشخاص – أو اللاشعور – إضافةً إلى الروتين. ألا تشعر هي مشكلة ينبغي حلها فورًا! لكن الموت هنا هو نتيجة لاحقة لسبب سابق ألا وهو الألم، أو الاعتياد عليه.
لماذا وصلنا لهذه الحالة؟
لنتخيل معاً كوكب الأرض سابقاً حسب رؤية الكاتب والفيلسوف الروسي فيودور دوستويفسكي، فهو يُعيد النظر بالأرض عندما سكنها الرجال الأوائل، فيرى أن سكانها لطالما كانوا متوزعين في قبائل صغيرة وفي حالة وئام فيما بينها. كان الإنسان آنذاك يسعى للبقاء على قيد الحياة وهدفه الأوحد هو النجاة فقط. فكان يُصادق الحيوانات، ويضرم النار ليتجمّعوا حولها، ويشكّلون جوقات موسيقية للغة يفهمونها جيدًا، فرحاً بالحياة والأرض والعشب والخُضرة. لنلاحظ أن سكّان الأرض السابقين كانوا يعيشون في حالة بعيدة عن الألم الكائن في أتفه الأمور. فهم يسعون – حرفياً – وراء لقمة عيشهم، حتى وإن ناموا في العراء.
إذن السؤال الآن: هل الألم نتاج للتقدّم والعلم المرتبطان بطبيعة الحال مع الوعّي؟
الإجابة هي لا، لأن الوعي شكل من أشكال الكمال العقلي والجمال الروحي، لا علاقة له بالإنتاج والتقدم، ما يجعل الإنسان انساناً هو أن يعي دوره “كمخلوق” قبل دوره القومي أو السياسي أو الديني، فإنك لا تستطيع أن تدفع فرد من الأفراد إلى عمل ينفع قومه أو دينه مالم تُحرك فيه انسانيته أولاً، لذلك يصبح الفرد قادرًا على البذل من أجل الجماعة وليس من أجل نفسه فقط. لذا يستحيل على الوعي المتمثل بالدور الإنساني لدى الفرد وروح الجماعة والإيثار في أن يكون سبباً في ألم الفرد أو اكتئابه.
متى ظهر الألم إذاً؟ باعتقادي أن الألم هو شكل من أشكال الوحدة أو عدم الانتماء، ليس بالضرورة أن تكون في غربة كي تشعر بالوحدة، ألا تشعر بأن أحدًا يشاطرك انسانيتك هو أعظم أشكال الغربة بشاعة، فالجواب في هذه الحالة يكون بأنه ظهر الألم عندما علَت “الأنا” على الغيرية، وفُضّلت الفردية على الجماعية، واستعلت الرذيلة على الفضيلة.
الكثير ممن درس فلسفة الألم وصل لنتيجة واحدة، مفادها أن تحضّر الإنسان واستحداث عوالم الصناعة والتجارة والأحزاب والقوانين والأحكام، أثرت بشكل مباشر على الجانب الإنساني في شخصيته، بحيث أصبحت تقوده الشهوات، لنجد أن الإنسان الحضاري – بطبيعة الحال – زادت مطامعه الفردية، وتعاظم جشعه، لتصبح لذة نجاحه مشاعر مرتبطة بشكل مباشر بانتهاز فرص النجاح على حساب الآخرين، وبذلك إيلامهم. لذا يأتي دوستويفسكي على ذكر هذا الموضوع في روايته “حلم رجل مضحك”، فيقول: لقد تعلّموا الكذب وأحبوه، وعرفوا مواطن الجمال فيه، ربما بدأ الأمر بريئاً على سبيل المزاح، أو الغنج والدعابة واللعب، وحقيقة الأمر أن البداية كانت ذرّة..”
وأكمل دوستويفسكي قائلاً: “لكن ذرّة الكذب تلك تسرّبت إلى قلوبهم وأعجبتهم، بعد ذلك ظهرت اللذة بسرعة، واللذة ولّدت الغيرة، والغيرة بدورها ولّدت القسوة، وبعد ذلك بقليل سُفح الدم الأول، فدُهشوا وتفرّقوا وتباعدوا عن بعضهم، ثم ظهرت التحالفات، الواحد ضد الآخر، وبدأت المعاتبات والتقريعات، وعرفوا الخجل، وظهر مفهوم الشرف، وبدأوا يعذبون الحيوانات، ففرّت منهم إلى الغابة وأصبحت عدوًا لهم، ثم بدأت المعركة من أجل “الانفصال” و”الفردية” و”الشخصية” وأخذوا يتحدثون بلغات مختلفة، وعرفوا الاكتئاب وأحبوه، وتعطّشوا للعذاب، فقالوا أن الحقيقة لا تُبلغ إلا بالعذاب”.
إنه من الشقاء ألا نُدرك نحن أبناء الأرض أن الرادع الوحيد لنا كي لا نفقد انسانيتنا هو “الضمير”، والضمير يتضاد بشكل كليّ مع النرجسية أو الأنا. لنجد أن طبيعة الفرد وتوجهاته الإنسانية تتعارض كلياً مع مبدأ المازوشية، أي أن الإنسان لا يحب الألم بل يرفضه. لكن المشكلة التي لطالما كُتب عنها الأدباء كانت الاعتياد عليه. لذلك، نُعلل قولنا بأنه عندما يُخضع الفرد شهواته لمحكمة الضمير، فإنها ستمنعه من ارتكاب هكذا دناءات.
لأذكركم بقصة هابيل الذي قُتل في العراء، والذي سُفكت دمائه ليأتي الغراب ويدفن غراباً آخرًا ميتًا فيكون أهدى من قابيل سبيلاً، فويلٌ للندامة التي أصابته بعدها، وويلٌ للضمير الذي ألحّ عليه وأثقل على نفسه. فإن كان من يدّعي أن النرجسية صفة من صفات الانسان، فإن هذا القول يبدد ما جاءت به الأديان والمعتقدات الروحانية. ليكون من الأجدر أن نؤمن بأن الضمير لطالما كان على مرّ العصور فطرة بشرية، وهو شكل من أشكال السلام ويتنافر بشكل جليّ مع التسبب بالألم والإيذاء.
مقال في غاية الجمال
وأسلوب رائع في توصيل الفكرة … اعجبني جدا.