بقلم الشاعر ناصر عتيق
على ضِفافِ الأربعين
(١)
لا أقبّلكِ
لأني أحّبكِ
بل لكي أتعلَّم
مضاجعة الباب
أوْ قوتَ الحمام
لكي أقرأ الجسد
بالجسد.
(٢)
أطفأت ثوبَها
للقلب ضفّتان
وأنهارٌ أربعة
يعرفُ السّر
وينسى مقبضَ
الأيّام
(٣)
أطفئي هذهِ الظهيرة
أطفئي ثوبَكْ
لكي أقبّلكِ بدون ستائر
أطفأت ثوبَها وأشعلتْ
في أصابعي
كل مفاتيح الغرقْ
مسفوحٌ جَمالُ هذا الشّبق
على عودُ الفتى المهجور
وضئيلةٌ نُجوك هذا الجسر .
(٤)
تركت لي عريَها ساخناً
وانسحبَتْ
إلى استدارةِ الخصر
إلى تكاوير الخجلِ
تغطّي وجْه النهر.
(٥)
ستهربُ جيتارةٌ
من قسوة أوزارها
سيخرج المغنّي
من صوته ويدخل
في كأسٍ مهملٍ
على الرصيف
حيث يختلط رأسه
بالقطع النقدية الزائدة
عن حياد السائحين
(٦)
غريبان
هذا الجسد
صفصافةٌ نائيةٌ
في ثنايا النوايا
ظِلّها لا يحتمل
المنام
وَ مدينةٌ لا تحتمل النوم
ولا نستيقظ أبداً
غريبان نحْنُ
هذا العراءُ
وخصرٌ يتأهبُ
للطيران .
(٧)
أطفأتْ
حتى طار إسمي
مِن يدي تأديته
فطارَ صوتي
وأنهار
على هذا الجسر
المكتظَّ بالذنوبِ البريئة
صارَ الشاعرُ محطة
(متروا) زائدة
وصرنا توأمين
من النسيان
على عتبةٍ مطعونةٍ
بجواز سفر
لا يصلح للحدود
ولا يصلح
لكي يعبر الموتى
من قبرٍ لآخر.
سالمين.
(٨)
وتَنَهَّدتْ
هجرتُ عائلتي
بعد العاشرة
بسكينٍ وصيف
مع عابرٍ
ولا غبار
(٩)
في الأربعين
يا أبنة الرحمان
يبيضُّ الزبدْ
آنية الصمتِ
تسقطُ من فُخّارِ
الكلام
عجوزٌ هو الوقت
في دهشةِ الولدْ
في طيرانِ اللجام
من شدّةِ الصمت
في ريش الحمام
قد يكونُ الموتُ
هو الحصان
قد يكون الموتُ
زجاج الأبَدْ
(١٠)
ليس لي
في هذه الدنيا
سوى هاتفي الجوّال
هذا
أكْوي بهِ ضَجرَ
الضواحي
فيجَعْلكُ قلبي
ليس لي إياه
أَرتّبُ على دقاته الصامتة
عطالتي عن العمل
وعطالتي عن الأمل
وعطالتي عن البنطال
وما تحته….
(١١)
ليس لي
في هذه الدنيا
سوى الكلام
لا يفهم ما أقولُ
وما يقولُ
كأنه قلبي الجوّالْ
هذا
كأنه كلب طفولتي
الأمير
مازال يلهثُ
في دمي
(١٢)
حين إنقطعَ المطر
في منتصف الحلق
فَوصَلَتْني
بغيمةٍ ساخنةٍ
تتدفّقُ
بين موعدين
يحملان الخصر
ولا يصلان ….
(١٣)
لم أكن قد عرفت
حين أشْعلتْني في حُجرِها
لم أكن قد عرفت
حرفاً واحداً من قميصها
ولا خيطاً واحداً
من حرير إسمها
ولا
حَفيفاً واحداً
يهبُّ من رائحة الصمت
في شفتيها لم أكن
حينَ خبَّأتْ نصفي
في سرير زوجها
ما قبل الأخير
وطيّرتْ
رأسي
مع دخان قاتلها
الأخير.
(١٤)
لم أكن تحت جلدي
ولم أكن قد عرفت
حين وصلتني عُشّاً
مثل حمامة تنقرُ
هواءً تخثّر
وَ عانقتُها
أربعاً
في
أربع
(١٥)
حين إنقطع المطر
في منتصف الحلق
فَوصَلَتني
بغيمةٍ ساخنةٍ
تتدفّقُ
بين موعدين
يحملان الخصر
ولا يصلان
(١٦)
توأمان من الغياب
نحنُ في مرآة
هذا الغراب الرغيد
إجرحيني من لوْنِهِ العنيد
إجرحيني في ذراعَكِ
أينما تجرحيني اصيرُ
أنت
اينما تلمسيني
أطير
(١٧)
أينما تَصِلِني تَصْليني
وأصير رنّات
كنيسة القيامة
على بلاط الحمام
وأنوثِة الرّخام
أينما تقْتُليني
يبتسم ياسمينً
في عطرهِ
وتبكي حارةٌ
في الشام
(١٨)
ليس لي
في هذه الدنيا
أَحَدْ
وليس لي
من هذا الجسد
إلا شهوةَ الغريب
إلاّ الجمر
يترمَّدُ
تحت
الجلدْ
(١٩)
في الحبّ
يَبْيضُّ البياض
في الخلق يكتمل
البياض
(٢٠)
في الأربعين
ينتفضُ الولدُ
في أعضائِها
ويكسّرُها طيْشاً
وَغراما
في الأربعين
نغافل قمصاننا
بشرفاتِ الغريبات
وهنّ ينشرنَنا
على حبال الترّهات
لكي تُغيّر الشمس
شراسة السرير
التي غرقَتْ
في نومها
(٢١)
في الأربعين نغافِلُ قمصاننا
بأجسادٍ لم تعد لنا
لتعدّ الغرباء
تحت جلدنا
حجراً حجراً
إنّ خطوتَكِ إنسجامٌ
بين رحيلين
فلا تطفئي
ثوبك
ذاك المساء
(٢٢)
لن أحبك أكثر
من عِنَبْ النبيذ الوثير
كل النساء لاجلكِ أنهار
بلا ماء ولا غرق ولا سهر
كلهّن لأجلك
اطواق منفرطة
على عنف القمر
مرايا
لاتعكس
الرجال
الغرباء
(٢٣)
سأخذ الشّجر من ظلّه
وأربط الشمس بفنجان قهوتي
عساني أُبْعد المطر قليلاً
عن الكرسي المجاور
عساكِ تُنَقيّني من لغتي الأخيرة
قبل أن يشنقنا حرير الكلام
فينشق السلام
عن غريبين
بعد العناقْ
وعن قتيلين
قبل الفراقْ
(٢٤)
وافترقنا مرّةً أخرى
في منتصف القلب
خّطان من خطى خاطئة
على سبورة هذا العمر
كوني- أرجوكِ – لنفسِكِ أختاً
كوني جديرةً بالطبشور
عَلّني أستحقّ _ عنوةً_ بعض أصابعي
وهي تجوسُ
على ممحاةِ القدر
لكي أنهي رسالةً
بدأتها لأمّي
منذ أربيعين سنة
(٢٥)
علّني استحقّ صَنْعَنَة الماء
تحت الجسر حين نعبرين
صفصافة الجسر
غيمة
فكرة
قميصاً عابراً
أو قمراً مغايراً
أَنْقِذْني حبيمن جسدي
خذني من مكان الخلق
ومن ثوبي الموارب
ومن قطعتي المدلّلة خدني
(٢٦)
أقطفني نبيذاً مَنتوفاً
عَتَّقَتْهُ عنا قيد الخجل
وإصعد حصاني الطريّ
إلى أخري المنسيّ
فغابتي الشقراء
لِجامُ دهشتك
خذني الأن من كل الأن
طَهّرني من قسوة الزغّب !
(٢٧)
إحملني
على خطّكَ
الأفقي
وحّدْ به صرختي
وحّدْ به جهاتي
ولغاتي عمّدْ به
ظنوني وطعناتي
لأني حين أغفوا
على خطّكَ
أتساوى مع الغيب
ويعلوا كعب حذائي
فوق المطر
ترِنُّ السماءُ
كأجراس المدرسة
وسيارة الإطفاء
(٢٨)
لم أدخل الأربعين
من باب
النهي عن نتفِ الشيب
ولا باب
جواز لبس الحرير
لمن به حكّةَ
إنما من باب
ذكر الموت وقصر الأمل
(٢٩)
لم أدخلها
من يقظةٍ في ذراعي الغريبة
ولا من غفوةٍ
في أحلام
موتاي الطيبين
خاشعاً تحت البُراق
متضرّعاً
بين رفوف الأنبياء
يا إلهي
يا إلهي
ياسيّد الإسراء
(٣٠)
لم تدخلها
من يدٍ راعشةٍ
تمسحُ الغبار الصابر
منذ أكثر
من خمسين سنة
هناك
في الدير في الكنائس في المساجد
هناك في أطلال المجيدل
ياسيدي!
يا محمّد!
يا جَليل!
(٣١)
لم أدخل الأربعين
من خبز أمّي الخضراء
يسيل من عرق الجبين
ويحمل عن كتفيّ
طرقات المشمش المسيّج
والمدارس الخائفة (٣٢)
وتواطؤ السماء
ما بين المغدور
في صمتِه
والرنين الباكي
الطالع من صلاة
القتلة
مع النوافذ
التي تخترقُ الرصاص
وتبقى مغلقة
(٣٣)
لم أدخلها
من دعاء
أبي الراجف وهو يمتد
كالتراويح من صلاة العشاء
إلى حَصاد
أخر حقلٍ
في الجليل
إنما ناديته
من وجع البعيد
إحملني يا أبي
على ظهر الدعاء
إلى أرض أبيكَ
الراعفة
(٣٤)
لم تدخل الأربعين
كما إتفقنا يا ابن عمّي
من (صباح الخير يا ابن عمي )
ترميها عليك
شرقيةٌ من دلال الشام
من قهوةٍ غافيةٍ
في الفنجان أبطالُها
سقطوا من (التبصير)
منذ أربعين سنة
عشقاً
بقارئة الفنجان
وهي تلحس
عسل
المنام
(٣٥)
لم تدخل الأربعين
أسوة بالرفاق الطيبين
حاملاً رأسكَ
على صنية الشاي
إكراماً للضيوف
وهم يتساقطون
من نومك ويغمدون
سيوفهم
تحت مخدتك
قبل أن يزرعوا
جفافَهم في ورد
الشباك الحزين
و يُمطرون
على الزجاج
المسلّح بالحرمان
(٣٦)
أصدقائي الموتى وهُمْ
يهطلون
كلّما غيم القلب
و كلّما ناديتهم
يختفون
مع ملائكة
الرحمن
(٣٧)
لم تدخل الأربعين
من دلال طفلةٍ
من ضفيرتها تنادي عليك
يا أبي!
كن لِضفيرتي وحدي
كن لها نَسْغاً يطير
كن لها عقداً
من عطر الياسمين
يا أبي ! طيّرني أعلى من جناحيّ
طيّرني أعلى من شجر الجيران
وأعلى يا أبي أنت بستاني
وسلّتي الفضية رأسكَ
باقةَ عمري الباقي
يا أبي فلا تشهق
(٣٨)
لأجلكِ أجَّلتُ أَجَلي
وتاريخ ميلادي
عدة مرّات
لأجلك أُجدّد الآن
إقامتي على كامل الجسد
مستثنياً
رائحة السجن في القبر
وتردّد القطار الأخير
في صيحة الديك
النائمة
(٣٩)
تعبت من ترجمة الجسد الى لغة الحليب
كيف لي أن أسقط
عن ظهر الليل؟
وقد كَسّر الفجر قوائمي
فغصتُ في طين النهار
غارقاً بالوعود
مُدّثراً بالخلود
منتظراً إسمي الأول
تحت ثوبَكِ
حيث لغة
الحبيب
(٤٠)
في الأربعين
ينتصفُ الجسد
ويكتمل الجنون
في الأربعين
تَحضّر العظام
ونطير الوسائد
من شدّةِ المنام
صِلْني _ حبيبي _ بنايِ
رعيانك العميانِ
وهم يخيطون جلدَك عليَّ
ويُضْرِبون عن الزمنْ
(٤١)
في الأربعين نكتفي
بالجلوس على أطراف أسمائِنا
غير آبهين _ كشحادٍ أُمّيٍ
بأبجديات البلاد المزخرفة
يحضّنها المجنون الإلكتروني
فتمرُ أمامنا
كالحجل المذعور
وهي تروح وَ تروح
بين رصاصٍ ……ورصاص
(٤٢)
أحتمي بالطفل فيكِ
أحتمي بالطفل
من ترّهات ألقابك
أحتمي بالطفل
من إنتصارات الحديد الخاسرة
وأحتمي بطفل الأعداء
من أبائِهِ في خوذ الانبياء
من قتلةٍ
إحترفوا وجْهَ القتيل
(٤٣)
أحتمي بالطفل
أختنق أخي الصغير
تحت_ رمل(عسقلان)
عشرين سنة قمرية
دون أن يَسْمح بّواقوا الحضارة
لأمي
بساعةٍ
واحدةٍ
من الرمل
دَفَنوه حيّاً
و اندلعت
أمّي
(٤٤)
لأنني…أنتِ على شباك العشرين
أخطأتُ عمري بجيلَيْن و لُغَتَيْن ونصف
أخطأت أبي بسرٍ مخْتبئ في ثنايا الزجاج
منذ يأجوج ومأجوج
وأخطأتُ جسدي زيتونَته
حين أخطأ أبي زيتونته
ذات صيف
(٤٥)
لا تستيقظي داخل نومي
ولدتُ عاشر عشرين
بين جوٍ وَ بَره
في جدولٍ من الحنين
في (جوبر)
في الأربعين يكتظُّ صبّار
السّهر في كيزان العيون
وَ يرتاح الدم الفوضوي في حبر
الجريدةِ مرتين
في الأربعين يلسعنا صوءٌ غافلٌ
وراء الباب
ويفيضُ مقبض الليل من شدّة القمر
(٤٦)
ليس الذّهب
ليس العذاب
هو السبب
ليس العذاب
طريق الخلود الوحيد
فقد يندلق الخلود
من قبلةٍ عابرة
في الخلق
تكتمل المياه
وترتعدُ
الأجنّة
(٤٧)
في الأربعين
نكتشف أعمارَنا فجأةً
في ألعاب أطفالنا
الذين لن يولدوا أبداً
وإن جُرِحنا مرةً
فإنّ قطرة الدم
تَكْتظّ بالضوء
ونهطل عتمة
(٤٨)
خذني حبيبي من رعشتي
الأولى في كلّ مراياك!
من تثاؤب الحليب في نهدي
وخذني من كلّ نوافذي
المكوَّرة !
أربطيني بشمس الشرق حبيبتي
قبل أن يصير جسدي
بركاناً من الخجل
تائهاً في تضاريس
الزجاج المدّلل
والمعّطر
كأني مَرةً أُخرى
أخري
المصلوب في المرآة
في ثياب الحلم
(٤٩)
كأنّي مرّةً أخرى
آخري
المذبوح على رَفّكِ
في دفتر الرسم
وعلى الرفّ قصائدي
التي لم تكتُب
أشلاء مدرستي
تحت القصف
وأسماء طفولتي
الموتى وهم يزربون
من عقدةٍ في خشب اللغات
وينثرون الضوء المتَرجَم
(٥٠)
فلا تغلقي الضوءَ
بالمفتاح أرجوكِ
ولا تجرحيه بالبلور
وهنا أحبُّكِ الآن
لساعة أخرى
من التّفاح
لأنّ فيكَ رائحة
الحربْ تعطّر قهوتي
وتُنقيّ صباحي
من ضجر الحرير ولأن في ظهركَ
ثقوب الرصاصِ
تشبه قصص حبي
القادمة
(٥١)
وافترقنا على ضفاف الأربعين
هو وَ أنا
الحبُّ توأم الموت
الصغير هو لحظةً
لا تُستعادْ
ما عاشها أحدٌ
وما عاد
وكلّما كبر الحبُّ
إكتمل التوأمان
وأصبحنا كما كنا
شارعاً لا يؤدي
إلى نفسِهِ
لا يؤدي صلاةَ
الغائب
على نفسه
ولا يؤدي
إلى أحد
(٥٢)
وجعي أني عرفت
بأن الموت مات
حين وُلِدتُ
وماتَ حين عشقت
ثم ماتَ
حين متّ
حين هجرتُ الحلوة
في ليلة العرس
لكي يهجرها الموت
وجعي أني رأيت
ولم أصل لحظةً
إلى رؤية الأعمى
(٥٣)
فلا تقطفيني
من ورد القميص المعفّر
ولا توفظيني منه
فريشي أَثْقَلَ من
الطيران
ووجعي وجَعْ
وجعي أنّ روحي
خارج أقفاص
الجسد
(٥٤)
كان ذلك
_ فيما مضى
كافياً
وصارَ
الأن
يكفي.
ناصر عتيق
١المجيدل قرب الناصرة في الجليل دمرها الصهاينة عام ١٩٤٨ ولم يتبقى من اطلالها سوى دير الفرنسيسكان وحقول أبي وأمي المدفونة حية تحت مستعمرة(مجدال هميق)
١سجن عسقلان الرهيب في فلسطين المحتلة
٣_ جوبر قرب دمشق مكان ولادتي ذات شتاء بعيد.