رؤية جيواستراتيجية لتطهير حيّ الشيخ جرّاح عرقيّاً
مراد الزير – فلسطين
يعتبر حيّ الشيخ جرّاح حيّاً فلسطينياً، والذي يقع شمال البلدة القديمة في القدس، ويحظى باهتمامٍ في الأيديولوجية الاستيطانية نظراً لموقعه الاستراتيجي، حيث أنّه من المعروف بأنّ القدس مطوّقةٌ بمجموعة مستوطنات تعمل كأداة فصل وعزل عن مدن الضفة الغربية، في حين يعتبر حيّ الشيخ جرّاح الأداة المهمة في إنهاء أي وصول عربي للقدس الشرقية وإحاطتها بالاستيطان بشكلٍ كلي وهذه تداعيات استيطانية مستقبلية، ويمكن اعتبار أفضل وصف جيوسياسي لحيّ الشيخ جرّاح هو ما أشار إليه هاجيت عوفران “hagit ofran” حينما اعتبرها مستوطنة غير مرئية بخلاف المستوطنات التي تُطوّق القدس الشرقية، حيث تقوم هذه على أساس استيطان أيديولوجي في قلب الحي العربي الإسلامي بحماية أمنية خاصة على نفقة إسرائيل، بهدف تغيير طابعها لضمان وجود يهودي دائم فيها، والتي تساعد بشكل كبير بعزل القدس الشرقية وانعدام اعتبارها عاصمة لفلسطين.
وفي حال نجاح المستوطنين في السيطرة على الحيّ، لا يمكن اعتباره فقط استبدال الفلسطيني بالمستوطن وحسب، بينما سيعترض المستوطنون مرور الفلسطينيين من الحيّ وسيتم التزييف بمحاولات الاعتداء عليهم، وهذا سيقود لوضع حواجز تفتيش لتنكيل عملية المرور ومع الوقت سيتم اختلاق حالات اختراق أمن الحيّ، وبهذا سيتم اللجوء لحلٍّ دبلوماسي مزيف وهو إغلاق الطريق المؤدي من الحيّ للقدس بقصد فتح طريق آخر وهذا محال، وهنا سيتم السيطرة على القدس الشرقية من خلال بناء مستوطنات جديدة تطوّقها وهو أمل الأيديولوجية الاستيطانية مستقبلياً، فهذا التخوّف يدركه الكثير من أبناء الحيّ رغم أنهم يتلقون الكثير من المضايقات ليست فقط في الوقت الحالي وإنما منذ أكثر من 60 سنةً، ويتحلّون بالصمود رغم ضيقهم، وهم تحت الرقابة من قِبل المستوطنين بالإضافة لمراقبتهم من خلال الكاميرات وأجهزة التسجيل المخفية والمرئية وهي مساعي لإثبات أي تصرف من قِبل الفلسطينيين تجاه المستوطنين لاستغلالهم في بروباغندا خطابهم السياسي.
وفكرة إخلاء حيّ الشيخ جرّاح ليست وليدة اللحظة، وإنما متأصلة منذ زمنٍ بعيد، بحيث تستند على فرضيتين حسبما أشارت إليهما مارينا سيرجيدس “Marina Sergides” وهي بأن لجان يهودية تدّعي ملكيتها لما قبل عام 1948، والفرضية الأخرى بأن (28) عائلة من اللاجئين الفلسطينيين يقيمون على الأرض وفي منازلهم منذ أكثر من 60 عاماً، بحيث طُردوا عام 1948 وتم إعادة توطينهم وتزويدهم بمنازلٍ في منطقة الشيخ جرّاح من قبل الأمم المتحدة في عام 1956، وكان هذا الاتفاق معهم بأن يتخلوا عن حقّهم في الحصول على مساعدات غذائية من قِبل الأونروا، على أن يدفعوا مقابل سكنهم أجرة رمزية لمدة ثلاث سنوات، ومن بعدها يتم نقل ملكية الأرض والعقارات إليهم، ولكن لم يتم نقلها بشكل رسمي، وبهذا تسعى شركة “نحلات شمعون” لإخلائهم بالاستناد على وثائق عثمانية قديمة تشير على ما يبدو إلى أن عائلات يهودية اشترت حيّ الشيخ جرّاح في القرن التاسع عشر، ولكن شككت “سيرجيدس” بصحة تلك الوثائق، نظراً لتحريها من ذلك باعتبارها محامية في المحاكم العليا في لندن.
ومعروف بأن منهجية المستوطنين في الاستيلاء على الأراضي بشكلٍ عام تتمثل بنقل ملكية الأراضي ضمن ملكية قانون الغائبين، أو تخصيص الأراضي كأرض عامة تابعة للدولة بسبب أهمية بيئية أو تاريخية أو دينية، بالإضافة لاستخدام النظام القانوني للمطالبات بالأرض بزعم أنها مملوكة من قِبل أفراد أو جماعات يهودية قبل عام 1948 مع إنكار ملكية الفلسطينيين، وأخيراً بالشراء من خلال وسيط أو شراءها بإفادات كاذبة ومزورة، وفي حال لم تنجح بتلك المنهجية تلجأ للتهديد والمضايقات، وهذا الحال في حيّ الشيخ جرّاح، الذي فشل المستوطنون في استملاك أرض الفلسطينيين ومنازلهم، مما جعلهم يتبعون في تصرفاتهم على المضايقات وتفاقم الصراع وعدم الأمان للفلسطينيين، ويشبه ذلك فلسفة مستوطني الخليل، حينما تمّ الاستيلاء من منزلٍ لمنزلٍ، وطرد السكان بدعمٍ من الشرطة الإسرائيلية، وهذا سيؤول للتطهير العرقي للحيّ، والذي تُعرّفه موسوعة “Hutchinson” وفقاً لخلق بيئة متجانسة عرقياً في بقعة جغرافية معينة بأنها عملية طرد للأعراق المخالفة لعرقٍ ما بفعل وسائل عنيفة “القوة” أو غير عنيفة “الاتفاق”، وحقيقة أن مصطلح التطهير العرقي قد ورد بالمعاهدات الدولية على أساس مصطلح الإبادة الجماعية، في حين الوصف الذي يُعجبني هو ما أشار إليه خبير القانون الدولي ويليام شاباس “William Schabas” بأنها “الجرائم ضد الإنسانية” أفضل من وصفها إبادة جماعية، وأميل صراحةً لوصف إيلان بابيه باستعماله لمفهوم التطهير العرقي.
وتعتبر محاولات التطهير العرقي لحيّ الشيخ جرّاح مخالفةً للقانون الدولي، وهي جريمة ضد الإنسانية سواء وفقاً لرؤيتنا أو وفقاً للمعاهدات الدولية والتي أكدّته ميثاق لندن للمحكمة العسكرية الدولية عام 1945، والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة- قرار مجلس الأمن (827) الصادر عام 1993، والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا- قرار مجلس الأمن (955) الصادر عام 1994، ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية عام 1988، وفي سياق هذا فإنّ الفلسطينيين سواء في حيّ الشيخ جرّاح أو خارجه وجدوا خطورة ذلك نظراً لتطوّر الوعي الجمعي عند فئات المجتمع، الذين أدركوا تماماً بأنهم مطالبون للتكاتف مع هذه القضية، رغم أن سياسة إسرائيل سعت وتسعى لتحويل العقلية الفلسطينية للأنانية الذاتية لضمان البقاء وعدم الاهتمام بأيّة أمور أخرى، وهذا ما أعرب عنه نعوم تشومسكي في كتابه “احتلوا” حينما أشار لنسخة أيان راند المتمثلة بأيديولوجية “الاكتفاء بالاهتمام بنفسك ونسيان أمر كل واحد آخر”، لكن في قضية حيّ الشيخ جرّاح كان الأمرُ مختلفاً، لهذا سرعان ما انقلبت موازين القوى الشعبية خوفاً من عمليات استيطانية وتطهير عرقي، وعليه أتمنّى مثلما تمنّى إيلان بابيه حينما قال: آمل ألاّ تبقى فلسطين في المستقبل مدرجة في قائمة التطهير العرقي.