بقلم براءة الدويك
يصلُ الإنسان الإستطلاعيّ أحياناً إلى “تخمة تفكير”، يرى كلّ ما حوله علامات استفهام تُثيره، رغم عدم أهمية ما يدعوه للتأمل أحياناً، يضعُ أحاديث الآخرين تحت المجهر، ويقيس تحركاتهم ومشاعرهم وأفعالهم بتحليلاته، وقد يصل فائض تفكيره بجمالية الأشياء إلى خلق سلبيات له تدعوه إلى كرهه أخيرا.
يقول أنسي الحاج في حبّه لجمال الموسيقى، وحين بدأ الأخوان عاصي ومنصور الرحباني في شرح تقنية الموسيقى والأدوات والطبقات والتلقيح والتجديد له، ضجر أنسي الحاج من هذه التفاصيل وقال جملته “أنّ أهمّ ما في الإعجاب، براءة المُعْجَب من دم المعرفة ،طوبى للجهلاء فإنّهم يُمَتَّعون”
وقد يكون الإنسان المصاب بداء المعرفة وحب الاستطلاع، ثرثاراً بفلسفته تجاه كل شيء، حيثُ يعرضُ ما يفكر به على الملأ، لذلك لا يلقى هذا الإنسان رفقة يسمعونه ويلقون له بالاً فيميل إلى العزلة الذهنية، تلك التي يحتفظ بأفكاره وتأمّلاته لنفسه ويغدو رفيقاً لعقله فتتضاءلُ لديهِ الرغبة بالكلام مع الآخرين، كلّما أيقنَ أنّ رصيده في الحديث يصلُ إلى أقصاه عبثاً!، خاصة لمن يجد أنّ خير الكلام ما دلّ ،وما كان عميقاً وضرورياً، لذلك، يعرضُ وجهات نظره داخل عقله ويُجري حوارات داخلية بينه وبين ذاته، يغضب ويعدّل، يضيف ويحذف، وربما يضع الطرف أمامه خصماً له داخل ذهن ، قد ينتصر بحواره أو يُهزم، بعد أن يتأمّل ويُفكّر ويفنّد ويسترجع تاريخ ثقافته العظيم لذات الموضوع، دون أن يدري أحد أنّ هناك مناظرة حادّة عميقة وفلسفية، وجادّة تُقامُ بداخله.
يقولُ نيكوس كازانتاكي في روايته زوربا على لسانِ شخصيته، ” لم يكُن احتكاكي بالبشر إلا مونولوجاً داخلياً ” ..
أغلب الناس ينظرون إلى الأشياء نظرة واحدة خاطفة ولا يمعنون النظر به مراراً وتكراراً، لجرده واستكشاف ماهيته، إنّهم يُسابقون العمر والأيام والأشخاص والطبيعة، ويمرّون عابرين دون ترك رابط لهم معرفي وقلبي وذهني في كلّ ما يُقابلهم.
لربما ذلك ما قاد الكثيرين إلى الندم بقراراتهم ونظرتهم السطحية للأشياء، والأشخاص والأماكن، في الوقت الذي يتفحص فيه ذاك الإنسان المتعمق ” شيء ما ” ويُعطي قراره بعد جرد وإطالة وتعمّق بما يدور في ذهنه، يكون الشخص العاديّ قد مرّ بأشياءٍ كثيرة وأعطى قرارات وفيرة وأخفق وسقط ونهض، وتهالكت قواه بسبب ركضه السريع وراء الحياة،
وكثيراً ما نلقى الإنسان الاستطلاعيّ قد صادق صديقاً واحداً طوال عمره، وأحبّه ووثق واكتفى به، وما عاد يجتمع بأشخاصٍ آخرين لأنّه تعمّق وتمعن وحرص كل الحرص ورأى في ذاك الصديق تفاصيلاً أعمق لفرطِ تدقيقه، ونرى بمقابله شخصاً آخر عادياً يمتلكُ أصحاباً كثر لكنّه لا يثق بواحدٍ منهم أو يمنحه الصدق الحقيقيّ.
لا يمكنني الجزم أيّ منهما الأفضل، حين قابلتُ الكثيرين من المستكشفين، وردّد عبارة واحدة ” ليتني انسان عادي “، لا يرى الحياة في حدودِ قوانين أزلية، قوانين الصواب و الخطأ القطعية المرفقة معه منذ ولادته، قوانين الصواب التي سار عليها أجدادنا وتخلّفنا من بعدهم ذات الخطى كأنّه دستور حياة متبوع بعاداتهم وتقاليدهم، وقوانين الخطأ غير المنطقية في أكثر الأحيان.
الإنسان العاديّ، الذي يهزّ رأسه باستمرار ويوافق على تلك الشروط بحكم أنّ أجداده قد عاشوا تلك الحياة ببساطة وراحة، فلما ذاك التعقيد والتمرد؟،
في الوقت الذي يضع فيه الإنسان المصاب بنهم البحث والمعرفة، علامة استفهام على كلّ قانون وشرط، يُجبره المجتمع أنّ يسيرَ عليه، ويُجادل الآخرين به، ويحاول أن يجعلهم يفكرون بطريقة مغايرة غير متبّعة، بآراءٍ له منطقية وأكثر صواباً من سابقيها، يريدُ أن ننفصل قليلاً عن القطيع، ونضع قوانيناً تتناسب مع الوقت الحاضر الذي نعيشه، فمثلاً، في الوقت الذي لم تنتهِ فيه عبودية المرأة تجاه الزواج المبكر، ودفعها له قسراً في عمرٍ لم تتجاوز فيه السادسة عشر، لتُسجنَ في قفصٍ زوجيّ دون تعليم وتحقيق لآمالها وأحلامها ، في قانون الصواب الذي يتحتم عليها الرضوخ له، وإطاعة والدتها التي سارت على ذات النهج في عصرها القديم، ووالدها الذي عاش في ذات البيئة وشاهد أخواته يسيرون عليه، لكنّ هنا زمنٌ مُختلف، تغيّرت المفاهيم لنتعظ من الكوارث المجتمعية التي نراها في ما حولنا، حين تقع المرأة تحت وطأة عجزها وجهلها، وقلة حيلتها تجاه نفسها وتربية أبنائها دون تجارب عاشتها وثقافة اكتسبتها ومعارف ألمّت بها، فيجعلها تخضع عاجزة، مستندة على عكاز الزواج، تحت ظروف سيئة ، ما كانت واعية لها في ذاك السنّ الصغير، هي بالنهاية لم تمتلك سلاحاً وقانوناً خاصاً بها يَكن لها طوق نجاة، إنّها سارت على دستورهم المطلق، دون أن تقرأ نتائج قوانينهم المرفقة على الواقع وتبعية اتباعهم، وعبثاً تكون قطيعاً جديداً وحاملاً ذات الدستور لأجيالها القادمة.
” ليتني انسان عاديّ “، غير مصاب بتخمة تفكير، ورمٌ يكبرُ يوماً بعد يوم، يجعلُني أمشي عكس التيار، فأواجه الكثير ولا أحقق إلّا القليل.