بقلم الباحثة: أ. جومانة محمود الصالح
في التاريخ: القهوة مشروب ساخن تتميز بمرارتها ولا تحتوي على السكر مطلقاً، وتعدّ رمز من رموز الكرم، والمشروب المفضل الذي يجلب الأُنس والسعادة ويعدل المزاج حيث أضحت عادة اجتماعية حاضرة في كل المناسبات من أفراح وأحزان.
اختلفت الكتب والمصادر في تحديد أصولها لكن التاريخ يشير إلى وجود أول شجرة للبن في اليمن السعيد حيث استخدمها الصوفية آنذاك كمشروب يساعد على التركيز ونوع من الروحانية أثناء تقربهم إلى الله، ثم انتشرت شمالاً باتجاه أراضي جزيرة العرب، وانتقلت إلى المدن الكبرى مثل: دمشق والقاهرة وبغداد والقسطنطينية، لتدخل بعدها إلى أوروبا عن طريق مدن إيطاليا التجارية، ودخلت إلى الأمريكيتين عن طريق النقيب غابرييل ديس كليوكس.
ذُكر تفسير معنى كلمة القهوة (البُن) بضم الباء في قاموس اللغة العربية على أنه “الخمر” أو “النبيذ” في تراث العرب قبل الإسلام، أما اليوم فاللفظ أخذ معنى اللقاء بوصفها مقهى ليتطور معناها تدريجياً إلى طقس يومي لايمكن الإستغناء عنه.
يعتبر الطبيب الرازي أول من ذكر البن في كتابه “الحاوي” وذكر أيضاً في كتاب “القانون” لابن سينا.
القهوة في التراث: تحظى القهوة بكثير من الاحترام لدى العرب، وترتبط بها عادات متعارف عليها منها:
1- يجب ان تُصب القهوة للضيوف وأن يكون الشخص الذي يقدمها واقفاً ممسكاً بالدلة بيده اليسرى، ويقدم الفنجان بيده اليمنى، وعادةً تقدم القهوة بفنجان صغير فمه متسع أكثر من قاعدته، يُصنع من الفخار أو الخزف قديماً، وحالياً من الزجاج.
2- من المتعارف عليه عند العرب احترام الأكبر سناً؛ لذا يتم تقديم القهوة للضيوف من اليمين لليسار، أو البدء بالضيف إذا كان من كبار السن أو أميراً أو شيخاً على قومه، ويكرر صب القهوة حتى يهز الفنجان معلناً اكتفائه.
ثمة أسطورة في تراثنا العربي تقول: “إن راعياً للغنم جعل رعيه يستهلك ثماراً في مكان ما وهو لا يعلم أنها ثمار البُن ليكتسب المرعى حيوية كاملة وهنا ما أدى إلى فضول الراعي لاكتشاف ثمار هذه الشجرة فاكتشف القهوة”.
آداب القهوة: ترتبط القهوة بآداب أثناء شربها وإعدادها وتقديمها؛ حيث يجب تسليم الفنجان باليد اليمنى من قبل المضيف وتصب القهوة مايقارب نصف أو أقل من مقدار الفنجان، وإذا مُلأ الفنجان وتم تقديمه يعدّ إهانة للضيف وعليه المغادرة فوراً، و من أمثلة الكرم والمروءة لدى العرب أن لا يشرب الضيف فنجان قهوته إذا كان لديه طلب من شيخ العشيرة أو المضيف حتى يبادره بالسؤال عن حاجته، فإذا قضاها له أمره بشرب قهوته اعتزازاً بنفسه.
ولا بدّ من الإشارة إلى أن القهوة في العُرف العربي ليست ارتواء فقط، بل فن وكيف وذوق سواء في طريقة إعدادها أو تقديمها وحتى في تناولها، حيث تثور ثائرة المضيف إذا أخبره أحد أن قهوته ذات خلل في المذاق، ويعبرون عن ذلك بقولهم: “قهوتك صايدة”.
أدرجت هيئة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة “اليونيسكو” في عام 2015 عادات القهوة العربية ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لما تحظى به القهوة العربية من فن واحترام لدى المجتمعات العربية.
القهوة طبياً: تحتوي القهوة على مادة الكافيين التي تعمل على زيادة نشاط الجهاز العصبي، والحد من الشهية وفقدان الوزن، والحد من الأورام السرطانية لاحتوائها على مواد مضادة للأكسدة، وتقي الكبد من التليف وتقلل من خطر الجلطات الدماغية، وتحمي من الاكتئاب والزهايمر وتحسن عمل الدماغ، إلا أن الإكثار منها يولد آثار سلبية على صحة الإنسان، حيث ذكرت أحد الروايات أن المفكر والكاتب الفرنسي “فولتير” الذي عاش في عصر التنوير كان يستهلك إثنا عشر فنجاناً كبيراً من القهوة يومياً، وازدادت الكمية حتى مات بالقهوة حسب تقرير طبيبه؛ ففي سنواته الأخيرة زادت كمية شربه إلى أربع وخمسون فنجان يومياً مشتهراً بقوله: “لا شيء يتم دون القهوة”.
للتعرف أكثر على هذا المشروب اتجهنا إلى الحاج أبو علي جابر صاحب البيت التراثي الفلسطيني الذي اعتاد على استقبال ضيوفه بزيه الفلسطيني ووجهه المشرق وكرمه المعتاد.
وصف القهوة على أنها: “رمز الضيافة العربية وذاكرة وطن لن تندثر ورسالة أجيال مستمرة حتى العودة، (ياهلا بضيوفنا ياهلا) كلمات يستقبل بها العرب ضيوفهم بوجه مبتسم وبشوش عند باب المضافة التي لها عدة أسماء منها الديوان – المقعد – بيت الشعر – الربعة، وهي مجلس الضيوف كما ذكر الحاج وكانت مفتوحة ليلاً نهاراً”
يتابع الحاج أبو علي جابر: “للقهوة عادات وتقاليد يجب الالتزام بها من قبل المضيف (المعزب) أو الضيف وإلا لاكتهم الألسن وانتقصت قيمتهم ومكانتهم بين العرب على حد قوله، فيجب على الضيف أن يعادل في جلسته ويتناول القهوة باليد اليمنى ولايجوز له أن يمتنع عن شرب القهوة إلا لعذر خاص، وعليه أن يتناول فنجانين وإذا كان فارساً عليه بالثالث، وعند الإنتهاء من الشرب يجب أن يهز الفنجان هزتان، ولا يجوز أن يمسح حافة الفنجان وأن لا يصب لنفسه فنجان، وإذا أراد أن يتحدى أحد فعليه أن يطلب شرب فنجانه”
يتابع الحاج أبو علي قوله: “القهوة العربية عنوان للضيافة و موروث من الآباء والأجداد، وهي من العادات الحميدة كرمز أخلاقي واجتماعي وحضاري تترسخ فيه دلالات الكرم والجود والسخاء والمروة والشهامة واحترام الضيف، يجب المحافظة عليها لأنها دستور عشائري بحد ذاتها حيث كان فنجان القهوة يحل أكبر المشاكل والخلافات عند العرب”.
يعدً الحاج أبو علي جابر إحدى القامات الوطنية الفلسطينية المحافظة على تاريخ وتراث وطنه، وما زال حتى الوقت الحاضر يرتدي الزي الفلسطيني ويقدم القهوة العربية بأصولها وآدابها، وهو مثل للرجل الفلسطيني الكريم المضياف الذي يتصف بروح الشهامة والمروءة
المحب لوطنه وشعبه وضيوفه
وقد طرحت على الحاج الجابر في نهاية اللقاء سؤالاً عن أهمية تقديم القهوة بوصفها عادة تراثية جميلة فردد قائلاً: ” أتمنى من أبناء شعبي الفلسطيني المضياف أن يحيي هذه العادة الحميدة التي تلم الشمل بين الأهل والأقارب والأصدقاء بكل محبة وسلام معتزين بعروبتنا
وعروبة فلسطين بقدسها وأرضها وسمائها وتاريخها ولأنها من الذاكرة التراثية الوطنية والقومية والتي أحاول ترسيخها من جيل إلى جيل حتى العودة والنصر” مرسلاً تحياته الحارة ومحبته إلى أبناء فلسطين في الداخل والشتات.