ـ تعتبر الزخرفة من أهم الفنون التشكيلية، وأعظمها تأثيراً في إكساب معظم المنتجات الحرفية قيماً جمالية، وهي جزء من النشاط الفني الذي قام به الإنسان من أجل إضفاء الجمال على منتجاته وأعماله الفنية، وتحظى باهتمام واسع حيث تمكن دراسة “فن الزخرفة بكافة أنواعها” الباحث من التعرف إلى أصالة التاريخ الفني، وأثره في الفنون الأخرى.
فن الزخرفة يشابه فن الشعر والموسيقا من حيث اتباعه قواعد خاصة من خلال تنسيق الوحدات الزخرفية وفق أبعاد يرتبها الفنان بشكل متناسق، وتختلف الزخرفة من شخص إلى آخر نتيجة نظرة كل فنان التي تبدأ بالتأملات ومشاهدات لعناصر من الطبيعة، ويلعب الإلهام والخيال دوراً هاماً في نوعية الزخرفة وجماليتها.
ومن أنواع الزخرفة:
الزخرفة النباتية ـ الزخرفة الهندسية ـ الزخرفة الكتابية.
الزخرفة النباتية يُقصد بها الزخارف التي تتكون من رسومات تعتمد على العناصر الطبيعية، وهي نوع من العمل التزييني ينفذه متفنن ماهر، وتسمى أحياناً “الأرابيسك” أو “التوريق”، وهي عبارة عن زخارف مشكلة من أوراق النباتات والزهور المنوّعة والأشجار وأجزاء النباتات، وقد أُبرزت بأساليب متعددة من إفراد ومزاوجة وتقابل وتعانق، وشاعت لدى الأمم والشعوب لكن كان لكل منهم طابعه الخاص الذي يعبر عنه من خلال واقعه ومشاهدته للطبيعة وتذوقه الفني وخياله الواسع،
وهي فن من الفنون التشكيلية، تعتمد على مختلف أنواع النباتات، حيث حظيت الفنون الإسلامية بكم هائل من الزخرفة النباتية التي اعتبرت الصيغة الحضارية الإبداعية التي تنتسب إلى تلك العقيدة الواضحة فكراً وتطبيقاً والتي تجلت مكتوبة، أو ملموسة، واستمرت متنامية دون أن تخرج عن أساسها العقائدي وفلسفتها الواسعة التي لم تصل فلسفة أخرى إلى حدود اتساعها وانتشارها
حيث كانت الطبيعة أحد مصادر الإلهام للفنان المسلم، فالخيال والعناصر التجريدية كانت أيضاً حاضرة بقوة في أعماله الزخرفية، استخدمت الزخرفة النباتية في الفن الإسلامي الذي تميز بالتماثل من خلال ارتباطه بنموذج أقرّه العرف والعقيدة، بسبب هذه العوامل بدا الفن الإسلامي للعين الغربية في الوهلة الأولى ذا درجة معينة من الرتابة، إذ يبدو من الصعب تحديد المنطقة الخاصة بمنتجاته، والأكثر صعوبة تحديد زمانها وتاريخها.
ولقد كان للزخرفة النباتية دور هام كونها حامل ثقافي لبعض المهن العربية الإسلامية ومنها: التصفيح، التوشيع، الترصيع، التكفيت، التلبيس، التطعيم، القرنصة، التزويق، العجمي، ومن أبرز المواد المستخدمة فيها: الرخام ـ الجص ـ الخشب ـ المعادن ـ الآجر ـ الفسيفساء ـ القاشاني ـ الخزف.
ـ نشأة الزخرفة النباتية:
ـ تعتبر الزخرفة مرآة حضارة الشعوب والأمم التي تعكس عاداتهم وتقاليدهم ومدى رقيهم وتحضرهم، حيث يستطيع الباحث من خلال مشاهدة الزخارف تخيل الواقع الذي عاشه كل شعب في أي عصر كان، ومن الجدير القول أن الزخرفة كانت حاضرة في أعمال الإنسان في كافة العصور، ومن الثابت علمياً أن الإنسان عرف الفن قبل أن يعرف اللغة من خلال الكشوفات التي أظهرت الرسومات التي كان يخطها على جدران الكهوف وعلى جذوع الأشجار، فعندما شعر بحاجته إلى التجميل والزخرفة كانت الطبيعة مصدر إلهامه الأول حيث استوحى منها بعض العناصر الزخرفية زين بها كهفه ووشم بها جسده،
لذا تعرف الإنسان على الفن قبل أن يعرف الاستقرار والزراعة؛ بسبب طبيعة النفس البشرية التي تتوق إلى التقليد والمحاكاة، فأخذ الإنسان القديم يقلد كل ما يحيط به من مناظر الطبيعة وأشجارها وحيواناتها برسومات تعبيرية بسيطة، وعند مجيء الإسلام أعطى للزخرفة عادات وتقاليد وأعراف دلت على الاتجاه الفكري والديني لدى المسلمين، وطبعها بطابع إسلامي لتصبح فيما بعد عنصراً اساسياً في الزخرفة وقاعدة أساسية للفنانين المسلمين.
ثم بدأت فنون الزخرفة تنمو على يد الصناع والمهرة في العصر الأموي وما بعده من العصور التالية، من خلال اعتماد الفنان المسلم على التعديل والتجديد عن الأصول السابقة التي كانت سائدة وأقصد هنا (النمط البيزنطي والساساني والهيلنستي) الذي ساد في منطقة بلاد الشام والعراق آنذاك، فنتج عن هذا المزج والتعديل عناصر زخرفية بيزنطية ـ إسلامية كما هو الحال في فسيفساء مسجد قبة الصخرة في القدس، والمسجد الأموي في دمشق، ثم انتشرت بشكل أوسع لتشمل زخرفة صفحات المصاحف الشريفة، والكتب والأواني، والسجاد، وأثاث البيوت.
وكانت للألوان مدى وتأثير عميق داخل النفوس، وارتبط اللون بمصيرين جوهريين: الأول هو النور القادم من السماء بالخالق الأعلى، والثاني الحوافز المرتبطة باللون كالعين أداة جاسة لذلك النور، ومن أهم الألوان بالزخارف المحفورة: الأزرق، والأزرق الفيروزي، والأخضر، والذهبي، والتي لها تأثير نفسي مركب على النشاط العضوي للجسم مثل ضغط الدم وارتخاء العضلات.
ذكرت الزخرفة في القرآن الكريم في سورة الزخرف ” لبيوتهم أبواباً وأسراراً عليها يتكؤون وزخرفاً” ويقصد الزخرف هنا الذهب والغنى، وأيضاً في سورة الأعراف “ومن حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات والرزق، وهي من النعم الواجب إظهارها قولاً وفي التعامل فعلاً وفي المرئيات زينة ضمن القواعد الإسلامية.
ـ من العناصر النباتية المستخدمة في الزخرفة النباتية: تنوعت أشكال العناصر النباتية المستخدمة في الفن الإسلامي، كالزخرفة بالأغصان في دقة رسمها وعرضها وتركيباتها، ومن أشهر الأزهار التي غالباً ما كانت تستعمل في الأعمال الزخرفية هي: التوليب، والخشاش، ورد القرنفل، الطحالب، البنفسج، النرجس، ومن النباتات التي تناولها المزخرفون: عناقيد العنب، أوراق الأكانتس، وأنواع مختلفة من الشجيرات يقول د. عفيف بهنسي في هذا المجال ” لقد كان التصور المجرد، والذي يعتمد على تأويل النباتات كالزهرة والورقة بداية ما يسمى فيما بعد بالرقش العربي ـ الأرابيسك ـ من حيث الحركة اللامتناهية” والأوراق والأزهار الأخرى.
ـ من العوامل التي أثرت في أساليب الزخرفة الإسلامية :
أ ـ عامل المكان: من خلال تنوع أساليب التعبير الزخرفي في البلدان التي اعتنقت الإسلام، وإبداعات الفنان المسلم بالتحوير والتعديل لإيجاد فن زخرفي خاص به.
ب ـ عامل الزمان: عبر امتداد العصور الإسلامية وتطور الحياة سياسياً واقتصادياً وثقافياً.
ج ـ عامل المادة والبيئة: استخدم الفنان الخامات والمواد المتوفرة في بيئته مما أدى على تنوع الفن بتنوع هذه الخامات من بلد إسلامي لآخر
ـ أساليب الزخرفة النباتية (أنواعها):
1ـ التوازن: وهو القاعدة أساسية يجب توافرها في كل تكوين زخرفي أو عمل فني زيتي، وهو يعبر عن التكوين الفني المتكامل عن طريق إتقان توزيع العناصر والوحدات والألوان، وتناسق علاقاتها ببعضها، وهو قانون مستوحى من الطبيعة.
2ـ التناظر أو التماثل: هي انطباق أحد نصفي التكوينات الزخرفية على النصف الآخر بواسطة مستقيم يسمى “محور”، وللتناظر أنواع منها ( الكلي والنصفي)، الكلي: يكتمل التكوين من عنصرين متشابهين تماماً في اتجاه متعاكس، والنصفي: يضم العناصر التي يكمل أحد نصفيها النصف الآخر في اتجاه متقابل وأبرز أمثلتها الطبيعة.
3ـ التشعب: تشعب وتفرع من نقطة وهمية تنبثق خطوط الوحدة الزخرفية من نقطة للخارج، أو تشعب من خط تتفرغ الأشكال والوحدات من خطوط مستقيمة أو منحنية من جانب واحد أو جانبين كسعف النخيل ونمو الأوراق من فروعها، ونمو الفروع من سيقانها، والسيقان من الجذوع.
4ـ التناسب: أهم قواعد الجمال، ليس له قاعدة إنما يتوقف على الذوق الفني ودقة الملاحظة وقوة التميز.
5ـ التشابك: يظهر بكثرة في الزخارف العربية على شكل التفاف عادي أو التفاف حلزوني، أو التفاف ساقين من النبات بشكل متعاكس.
6ـ التكرار: تكوينات زخرفية تضم مجموعة زخرفية متشايهة تشابهاً تاماً، وهو إما (عادي) حيث تتجاور الوحدات الزخرفية في وضع ثابت متناوب، و( متعاكس) تتجاور الوحدات الزخرفية في وضع متعاكس تارةً للأعلى، وتارةً للأسفل، و( متبادل) استخدام وحدتين زخرفيتين مختلفتين في تجاور وتعاقب الواحدة تلو الأخرى ويسمى أيضاً ( التعاقب المتناوب).
ـ أهم المعالم الإسلامية المزخرفة بالزخرفة النباتية:
ـ الجامع الأموي: من أهم الآثار العربية الإسلامية في دمشق الفيحاء، وله أهمية بالغة لمكانته الدينية والتاريخية، بالإضافة لما يحتويه من تصوير لزخرفة نباتية، ويعتبر نقطة تحول كبيرة في التاريخ العربي كونه يمثل بداية الثورة على البساطة والتقشف التي اتسم بها عصر ما قبل العصر الأموي، ويعتبر انطلاقة جديدة في مضمار فنون العمارة والزخرفة والتصوير، أنشأ المسجد الأموي الخليفة (الوليد بن عبد الملك) وقام بزخرفة الجدران بالتصاوير التي تألفت من عنصرين أساسيين هما (الفسيفساء والرخام)، فضلاً عن المنحوتات الجصية والحجرية المتميزة بإبداعها سواء في تكوينها الذي يتجلى فيها الخيال الإبداعي الإسلامي، واحترام العقيدة إلى جانب تفوقها على أي أعمال فسيفسائية في الفنون التي سبقت الإسلام سواء الفن الروماني أو الهيلنستي أو البيزنطي، تغطي الفسيفساء الأجزاء العليا للجدران الداخلية والخارجية، إضافة إلى الأروقة والحرم وباطن العقود والقناطر، وزخرفت السقوف بنوع من الفن المعروف (العجمي) ويتخلل الفسيفساء كتابات لآيات قرآنية.
ـ قبة الصخرة: أثر فني كبير فريد من نوعه في العالم ليس فقط لجماله بل لأن هويته العربية تعطيه أكثر ضخامة من بقية الآثار التصويرية الباقية في العصر الأموي، تم بناؤه في العصر الأموي من قبل الخليفة (عبد الملك بن مروان)، تحيط زخارف الفسيفساء أنحاء قبة الصخرة من الداخل والخارج المؤلفة من مكعبات صغيرة من الزجاج الملون والمذهب، بالإضافة إلى قطع من الصدف أحياناً، والأقسام العلوية من الرواق الأوسط وتغطي جدران المسجد عناصر زخرفية نباتية متنوعة أغلبها محور عن الطبيعة بأسلوب زخرفي رائع، منحه التحوير حلة إبداعية في أشكال متناظرة أو متتابعة، والملاحظ من خلال دراسة الأساليب والعناصر الفنية في رسوم وزخارف قبة الصخرة هناك رسوماً مقتبسة من الفنون الإغريقية والبيزنطية مع عناصر من الفن الهيلنستي والساساني.
ـ ما يزال هذا الفن سائداً في بلاد الشام حيث ارتبطت هذه الحرفة بعراقة سوريا وحضارتها الموغلة في القدم كونها مهد الحضارات و موروث ثقافي يعبر عن أصالة الشعب السوري وعشقه للفن والجمال ، لكنه بات من الفنون التراثية التي على وشك الإندثار.
مما شجعني القيام بزيارة إلى سوق المهن اليدوية الواقع في التكية السليمانية في عام 2017؛ للتعرف على قامة من قامات سوريا ممن يتقنون الزخرفة النباتية والرسم على الخشب أو ما يسمى “العجمي” الحرفي المهندس عرفات سلمان أوطه باشي وشيخ الكار في الرسم النباتي على الخشب، حدثني عن هذه الحرفة المتوارثة جيلاً بعد جيل، وعن آلية العمل والمواد المستخدمة حيث عدد أنواع الزخرفة قائلاً: ” هنالك ثلاثة أساليب للزخرفة، الرسم الهندسي والنباتي والخط العربي، ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر لأن هذه الزخارف مرتبطة ببعضها، حيث يمكن المزج بين الزخرفة الإسلامية والخط العربي”، وذكر الصعوبات التي تواجه هذا الفن العريق في ظل الأزمة السورية، وهجرة العاملين في هذه الحرفة إلى الخارج مؤكداً على أهميتها كونها جزء من التراث اللامادي السوري.
ـ المصادر المستخدمة:
1ـ القرآن الكريم
2ـ د. بهنسي، عفيف، الفن الإسلامي، دار طلاس، دمشق
2ـ دملخي، إبراهيم، الألوان نظرياً وعملياً، منشورات جامعة دمشق، 1993م
3ـ شريقي، زكريا، الفن العربي الإسلامي الجذور والمؤثرات، دمشق، وزارة الثقافة، 2012م، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب.