الأستاذة الباحثة: جومانة محمود الصالح
ـ من المعروف أن الثقافات تتواجه وتتصارع فيما بينها في سبيل إثبات قوتها، ومحاولة السيطرة على المجتمعات ونشر قيمها سواء المادية أو الروحية، وهذا ما عُرف عبر التاريخ بصراع الحضارات التي عبر عنها الكاتب صمويل هنتنغون من خلال نظريته “صدام الحضارات” The Clash Of Civilizations التي يدور محورها على أن الصراعات بين الدول ما بعد الحرب الباردة لن تكون وفق الاختلافات السياسية والاقتصادية؛ بل وفق الاختلافات الثقافية التي تعتبر المحرك الأساساي للحروب بين الدول، وعليه سيتحول النزاع من نزاع سياسي ـ اقتصادي إلى نزاع أيديولوجي بين الحضارات.
ونجد أن الثقافات بشكل عام تواجه وتقاوم ثقافة قوية أُسست حديثاً وطغت على غيرها، فهيمنت عليها، وبقدر ما تكون الثقافة ضعيفة بقدر ما تعلن استسلامها السريع أمام الثقافة القوية السائدة، وتسعى إلى تقليدها أيضاً، هذا ما عبر عنه مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون بقوله: “إنّ المغلوب مولع دائماً بمحاكاة الغالب والإقتداء به لأنه يعتقد أن انتصاره راجع إلى صحة مذاهبه وعوائده”.
والقارئ للتاريخ يدرك أن الغزو العسكري بدء منذ فجر التاريخ من خلال احتلال الدولة القوية المزدهرة للدول الضعيفة، والسيطرة على مقدراتها وخيراتها، وفي فترة لاحقة بدأت الكشوفات الجغرافية من قبل الدول الغربية التي شهدت ما يُعرف بالغزو الاقتصادي لأراضي قارتي آسيا وإفريقيا، ثم ظهر نوع جديد من الغزو يعرف باسم الغزو الثقافي، رغم أن هذه المعلومات غير دقيقة ولم أقتنع بها من خلال قراءتي لكتب التاريخ لأن الغزو العسكري كان ملازماً للغزو الاقتصادي والثقافي، بدليل أن ما حدث في قارة أميركا عندما غزاها الأوروبيون عام 1492م كان غزو عسكرياً واقتصادياً وثقافياً في آنٍ واحد، حيث قام الغرب باحتلال القارة عسكرياً، ونهب ثرواتها، والتحكم بمقدراتها الاقتصادية، وزعزعة النظام المحلي بشكل وحشي من خلال إبادة الهنود الحمر، وفرض الثقافة الغربية بالقوة والسلطة.
ولا بدّ أن أُشير هنا إلى الهيمنة الاستعمارية التي فتكت بدول الوطن العربي التي كانت مثال صريح للغزو العسكري ـ الثقافي من خلال احتلالها عسكرياً ونهب خيراتها واقتسام أملاكها، وفرض لغة المحتل وثقافته إضافةً إلى محاولة إلغاء اللغة العربية وتهميش الثقافة العربية، باعتبار أن اللغة العربية هي وعاء الفكر التي تشكل هوية الشعوب العربية؛ فانصب اهتمام الدول الاستعمارية على إضعاف لغة البلاد العربية، والناظر اليوم إلى حال الدول العربية التي تعرضت للاستعمار الغربي نجدها تعيش في غربة ثقافية ما بين محاولة المحافظة على لغتها وثقافتها وعاداتها، وبين محاولة الإقتداء بالغرب وتقليده بزيه وممارساته وعاداته لدى الخاصة أو العامة على حدٍ سواء.
لذا فإن المتأمل في التاريخ يجد أن الغزو الثقافي أو ما يُعرف بالغزو الفكري أسلوب قديم لازم الغزو العسكري وكان جزءاً لا يتجزأ منه؛ لكنه كان يُنتهج بكل سرية وغموض، أما الآن أصبح يُمارس علناً من خلال الانفتاح على العالم بسبب التطور الهائل بوسائل الاتصال حيث أضحى العالم بأكمله كالقرية الصغيرة، اخترق هذا التطور جميع المجتمعات لتمارس الدول الاستعمارية هيمنتها الثقافية عليها من خلال فرض لغتها وثقافتها وعاداتها، فنجد جامعات الدول الغربية على سبيل المثال تقدم المنح الجامعية مقابل شرط إتقان لغة البلد المانح، وهذا الكيان الصهيوني المحتل أيضاً ينجح في إحياء اللغة العبرية من خلال جامعاته، والتي تعتبر خليط من اللهجات الكنعانية القديمة المندثرة منذ زمن غابر.
إذاً فالغزو الثقافي هو سلاح قديم لازم الغزو العسكري منذ فجر التاريخ، واعتمد على الكلمة والرأي وقوة المنطق لهدم القيم والثوابت وفرض القيم السائدة المهيمنة، والغزو الثقافي شأنه شأن أي سلاح يخضع للتطوير والتحديث لزيادة فعاليته ورفع كفاءته بما يتناسب مع الزمن والمكان والحدث، وهو سلاح اقتصادي فعال كونه لا يحتاج إلى مواجهة مسلحة، ويبقى أثره عدة عقود فيقضي على جيل بأسره.