الشهيد
من المجموعة القصصية “قلبى لرجل وقف خلفه الرجال”
قصة للكاتبة هند محمد، القاهرة – مصر
“النقيب مصطفى “ضابط، شاب مبتسم ومتواضع، إذا أهل على مكانٍ فاح عطر الشهامة والرجولة، كل من حوله يحبونه، يقدس عمله، كان مصطفى زوجا وأبا لطفل عمره ثلاثة أعوام، يحب زوجته وابنه، ويقدس حياته الأسرية.
كان الحب الذي جمع بينه وبين زوجته رويدا، هو النور الذي يستمد منه القوة لتحمل صعاب ومخاطر عمله.
كانت رويدا في كل مرة يخرج فيها إلى مأمورية تودعه بابتسامة وتدعو له وتطمئنه أنه سيعود بأمر الرحمن إليها وإلى طفلهما يوسف، كان مصطفى إذا سمع كلماتها الرقيقة العذبة هدأت روحه واطمأن قلبه.
وفي إحدى المرات خرج مصطفى إلى مأمورية شاقة، حيث القبض على أكبر شبكة من تجار المخدرات، وبينما قوات الشرطة تصطدم مع الهدف، أصيب صديق له.
كانت الحرب شرسة بينهما لكن تمت السيطرة، وكان عليه أن ينقل صديقه إلى المستشفى، وكان فى حاجة شديدة لنقل دم، ولأن فصيلته نادرة، كان من الصعب توفرها، حيث كانت (o موجب)
تم أخذ عينة من كل فريق العمل لم يصلح له سوى دم مصطفى. وصديق آخر، لكن مصطفى أبى أن يحل مكانه أحد فكان مصرا على أخذ جرعة الدم منه هو.
وبعد نقل الدم إلى صديقه، بدأ ينتبه ونظر مصطفى إليه وابتسم ثم قال: دمي يجري في وريدك يا صاحبي لعله يذكرك بيوم وداع.. قال مصطفى هذه الكلمات ولم يدرك أن القدر يخبئ لها معنى مؤجلا.
وعندما عاد مصطفى إلى بيته، قابلته الحبيبة بلهفة وشوق وحب وحنان، لكنها لاحظت اصفرار وجهه، فقد كانت نسبة الدم التي تبرع بها إلى صديقه عالية، سألته عن السبب فصارحها بالحقيقة..وما أجملك يا رويدا حين انحنيتى لحبيبك تبجليه وتعلني أنك فخورة بأعظم ضابط !.
ثم أسرعت إلى الثلاجة وأحضرت العصائر واللبن وأشهى المأكولات لتعوضه ما فقده.
أمام كل هذا الاحتواء نسي مصطفى كل إرهاق وتعب كان فيه قبل دخول بيته.
وذات يوم كان مصطفى ومجموعة من الضباط مكلفين بتأمين أحد المؤتمرات، وأثناء ذلك لفتت وسامته وأناقته نظر فتاة من الطبقة الأرستقراطية.
بعد انتهاء المؤتمر اقتربت منه وأبدت إعجابها به، بلباقة شكرها واستأذنها في الانصراف، لكنها طلبت رقمه، فاعتذر وخرج مسرعا، لكن هذه الفتاة عزمت أن تصل إليه وألا يضيع منها.
وفي اليوم التالي بينما مصطفى في مكتبه، إذ بالساعي يخبره بفتاة تريد مقابلته، سأله عن اسمها فأخبره أنها لم ترد ذكر اسمها، فسمح لها، وإذ به يندهش عندما رآها أمامه، وبكل أدب رحب بها وسألها عن سبب زيارتها.
أخبرته أنها طلبت منه رقم هاتفه فرفض، فأصرت على مقابلته، فرد عليها وأخبرها أنه زوج وأب ويحب زوجته وابنه، ولا يرى في حياته غيرهما، وأنه يحترم إعجابها به وأن هذا الإعجاب سيأخذ وقته وينتهي بريقه.
وظلت الفتاة تطارده مرات ومرات حتى وصلت إلى رقمه..وأرسلت له رسالة على تليفونه (بحبك ولا أستطيع الحياة بدونك) وصلت هذه الرسالة لـ تليفون مصطفى ولم يكن إلى جواره.. ولأول مرة رويدا تمد يدها إلى هاتف زوجها وتقرأ الرسالة، فانهمرت الدموع من عينيها.
وأتى مصطفى من حجرة مكتبه ليرى الدموع تملأ وجه حبيبته، وما أن اقترب منها ليحتويها إلا وأبعدته عنها واتهمته بالخيانة، وواجهته بالرسالة، أقسم لها مصطفى أنه ليس بخائن وأنه لا يعرف من صاحبة هذا الرقم، وإن كان يشك في الفتاة التي تلاحقه وهو لاينتبه إليها، إلا أن رويدا رفضت أن تسمع له وأخذت طفلها وتركت البيت.
لم يكن أمام مصطفى وقت، ليذهب وراءها إلى بيت أبيها، حيث كان يستعد لمأمورية جديدة، وكان يعزم بعد عودته أن يصالحها، لكنه تسلل إليه خوف لم ينتابه من قبل، فهذه أول مرة يخرج مأمورية دون أن تودعه رويدا وتدعو له.
خرج مصطفى وحدث ما تنبأ به لنفسه، أصيب بطلق نارى.. وقام زملاؤه بنقله إلى المستشفى وأخبروا زوجته التي بمجرد أن تلقت الخبر خرجت مسرعة لا تدري ما الذى ترتديه، ولا إلى أين ستذهب ولحق بها والدها.
وصلت المستشفى فوجدت كل زملاء مصطفى يبكون ظنت أنه رحل، لكنهم أخبروها بأنه في العناية المركزة، أسرعت نحوها وفتحت الباب دون وعي، واقتربت من حبيبها تخاطبه: حبيبي سامحني، عد إلى الحياة من أجلي أنا ويوسف، لاتتركني شريدة دونك.
كان مصطفى في غيبوبة تامة، وقام الأطباء بإخراجها، وبينما هي على باب العناية إذ بفتاة تقترب منها وتسألها عنه وعن حالته، فسألتها: من أنت؟
فحكت لها الفتاة، لتتأكد رويدا من إخلاص زوجها وحبه لها.. وباتت ليلتها تؤنب قلبها كيف سمح لها أن تشك في حبيب العمر.. دخلت عليه وجلست إلى جواره وأمسكت يده.
أحس مصطفي بها، وانتبه وفتح عينيه وابتسم لها، فرحت وقالت له: سامحني.
فرد: قلبي يحبك يا رويدا فكيف لا أسامحك؟ , لكن هل رأيتي كيف كان رحيلك من بيتك سببا في وجودي هنا؟, فلم تودعيني ولم تدعو لي كعادتك، وعدته ألا تترك بيتها أبدا مهما حدث وباتت الليل يدها لا تفارق يده، حتى أشرقت شمس الصباح ومع شروقها صعدت روح الشهيد إلى ربها.
رحل مصطفى وترك الحزن والدموع لحبيبته وأهله وأصدقائه.. وتذكر صديقه جملته التي قالها له وهو يتبرع له بالدم.
توعد أصدقاء مصطفى بأخذ ثأره وحقه، قالوا ” من أجل الوطن نحيا،ومن أجله نستشهد،نحن سنكمل من بعده ونأخذ حقه”.
أما رويدا الزوجة والحبيبة زوجة الشهيد، عزمت أن تحتفظ بلقبها أرملة الشهيد، وأبت أن يدخل حياتها رجل بعد حبيبها.. وأمضت حياتها تربي يوسف الذي كبر وتخرج من الكلية العسكرية وصار ضابطا، ويوم تخرجه أخذته وذهبت إلى قبر حبيبها: حبيبي ونبض الفؤاد، يوسف تخرج اليوم أصبح ضابطا، سيكمل مشوارك، لعلك فخورا به وراضيا عني، سيظل حبك ينبض بقلبي ليوم تجمعنا فيه دار البقاء. حبيبي مازلت أردد كلماتي إليك التي كانت تسعدك:
فادي بلادك بروحك يا نسر بلادي،لا بتنحني ولا تنكسر ،يا مصري يا أسمر مروي بمية النيل، الكل يهابك والنظرة منك ترعب ومفيش عندك مستحيل،يا ولدي و أخويا وأبويا ما لك مثيل .
لما مصر بتناديك بتقول حامي أرضك،وأخاف عليك وعلي عرضك,ولما شهيد بيروح منكم بيقول الأحياء هنكمل من بعده ،ومن كل بيت هيجي نسر جديد ،دا نسرك يا مصر نسر فريد.
الجندي المصري في أي سلاح، شايل ترابك تاج فوق رأسه ،بروحه حاضن هواك،وبعيونه يخبيك من أعدائك
ثم أختتمت:
قال تعالى: (ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون.)