بقلم الدكتور امجد ابو العز،
محاضر في جامعة النجاح الوطنية في نابلس – فلسطين
ابناء و بنات الشتات الفلسطيني- الرحيل أهم من محطة الوصول: اعتقد اننا مقصرين في موضوع الشتات الفلسطيني، خاصة الجيل الجديد من الفلسطينين الذين ولدوا في المهجر ولا سيما في أوروبا وامريكا اللاتينية.
أختلطُت بهؤلاء الشباب في تشيلي خلال زيارتي لها، وفي أوروبا خلال فترة اقامتي بها ما يقارب 12 عام. فئات الشتات الفسطيني مقسمة الى ثلاثة أقسام: المهاجرون الأوائل او الاب الذي أُستئصل من ارضه وتعرض للترحيل بعد حروب الشرق الأوسط، الى الأردن اولبنان او سوريا او مصر قبل ان تطأ قدمه ارض عالمه الجديد “المهجر”.
تعاملك مع هذه الفئة تشعر انه عصامي، قام ببناء نفسه بنفسه بدون مساعدة جلب معه عاداته وتقاليده وقيمه ولغته، ويقضي جل وقته في إدارة صراع داخلي للوقوف ضد غزو ثقافي جديد فرض عليه. ذاكرته توقفت عند اليوم الذي خرج فيه من فلسطين، ولو حاولت تحديث ذاكرته سوف “يكرهك”، بمعنى اخر مازالت صورته وردية نقية عن بلده، وعن اهله وعن نقاء الطبيعة، والهواء والعليل في ليالي صيف قريته او مدينته، ما زال يحتفظ بمخيلته بمواقف الشهامة وبطولة أهل البلد وطيبتهم والاعراس والاطراح وووو.
بالتأكيد حبه لوطنه وغربته، يجعلانه لا يتذكر الا الشيئ الحسن الجميل من بلده، وتخفي ذاكرة وعقله الباطن عمداً أي صورة نمطية سيئة عن وطنه، كيف لا؟ وهذه الذكريات هي وقود حياة يومه التي يقتاد عليها يوميا!!! فالحب اعمى ،فالذي يحب لا يرى من حبيبه الا الشيئ الجميل.
التقيت احد افراد هذه الفئة في لندن، لا يجيد استخدام اللغة الإنجليزية او يجهلها تماما. أخبربني احدهم انه تحول فور وصوله لبريطانيا الى عامل “بروتاريا ” جُل همه تلبية احتياجاته، أي يمارس طقوس الحياة. يعيش في قرارة نفسه كأجنبي مقيم إقامة عابرة، مع حلم دائم مع بالعودة بعد التقاعد اذا امكن . لكن صديقي المهاجر الأول اعتقد ومازال يعتقد ان مجرد الحصول على جوزا سفر اجنبي هو بمثابة رمز للحرية. اخبرني ان الغربة والمهجر في ذلك الوقت لم تكن مكانا للثراء لانه لم يختره بقدر ما فرض عليه، فكان مكان إقامة بعيدا عن الاحتلال والقتل في الشرق الأوسط، بعيداً عن الحروب والنبذ الاجتماعي والعنصرية المقننة والبطالة والفقر والتسلط والانغلاق.
الجيل الثاني من أبناء المهاجرين في الشتات الامريكي والأوروبي، ولدوا بعيدا عن وطنهم يجيدون التحدث بلغة وطنهم الام، بحكم الجينات والعرق الدساس وبحكم تحدث والدهم معهم باللغة العربية بشكل اجبا ري، وفي نفس الوقت يجيدون التحدث بلغة البلد المضيف.لاحظت ان لديهم اطلاع اكثر عما يحدث في وطنهم الام فلسطين، واكثر تشددا في مواقفهم. بعضهم يشتاط غضا اذا ذكرت له كلمة “إسرائيل” بدلا من الاحتلال او الكيان الصهيوني، “ويا سواد ليلك” اذا مدحت السلطة الفلسطينية او اتفاق أوسلو. فمواقف الغالبية العظمى منهم سلبية تجاه السلطة ويومنون بالمقاومة ولديهم الاستعداد التام للمشاركة في التحرير. هذا الجيل من الشتات تشبعوا بحكايات وذكريات اباهم في المدن والارياف الفلسطينية وقصص الاحتلال الإسرائيلي، على الرغم من انهم لم يشاهدوا فلسطين ولم يزورها. لكن ذاكرة اباهم التي توقفت عند يوم مغادرتهم فلسطين نسخت لهم، وكما ذكرنا سابقا طبعا تم نسخ الصور الإيجابية واهمال الصور السلبية ان وجدت أصلا.
تعرفت على احد الشباب الفلسطينين الامريكيين الذين قرروا زيارة ميدنتهم نابلس لاول مرة . سمع عن مدينته من اهله، ما سمعه كان ايجابيا عن نظافة المدينة وعن ترتيب البناء والسينما ووووو لم يسمع الا الجميل. في اللقاء كان صديقنا دائم التذمر والانتقاد للبلدية والمؤسسات والسلطة لكل شيئ تقريبا لانه صعق على حد قوله بما شاهد. قال بلهجة عربية امريكية ” بابا ما حكالي عن مدينتي هيك، انا مصعوق”. جاوبته في قرارة نفسي، ياريت لو والدك يعمل تحديث للشريحة”.
هذا الجيل ادرك ان إقامة قد تطول فاندمج في الحياة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتزوج مما توفر له من بنات جيلةاو جلدته او من بنات الوطن المضيف. وبعضهم اطق على نفسه اسما أوروبيا لتجنب الصور النمطية عن العرب والمسلمين ولكي لا يكون أسمه معيق لفرصه في الحصول على وظيفة في مجتمع يراه غريبا بلونه واسمه. وهنا لا نستطيع التعميم لانه هناك جيل منهم حافظ على لغته وحجابه وقيمه وتشبث خلف أبواب وشبابيك قلعته وراقب من بعد محيطه منقدا مراقبا.
واعرف شابا فلسطينيا من الجيل الثاني في بريطانيا انتقل من النقيض الى النقيض، فبعد ان كان يملك فرقة تغني في الحفلات والنوادي الليلية اللندنية، حلها وانتقل الى جماعة الدعوة اطلق لحيته واتلف جيمع اغانية التي كانت تملئ السوق. انتقل لاحد الدول الإسلامية وتعلم الشريعة ورافق الكبار من رجال الدين.
الجيل الثالث من الشتات الفلسطيني مختلف بشكل جذري عن الجيليين السابقين الغالبية العظمى منهم حاصل على جنسية البلد المضيف، لم يعاني لا من احتلال، ولا من حواجز ولا فقر، كونهم ولدوا في الدول المضيفة. الغالبية العظمى منهم لا تتحدث العربية ومنهم انصاف فلسطينيين نتيجة زواج مختلط. اعتقدت للوهلة الأولى ان هويتهم المختلطة انسهتم هوية ابائهم او اجدادهم لكن سرعان ما يلتحقوا بالجامعات تبدا الهوية الفلسطينية في الظهور مجددا وكان العرق دساس.
احد بناء الجيل الثالث من الفلسطيين زارني في مكتبي العام الماضي في جامعة النجاح، كانت طالبة تدرس في المانيا والدها فلسطيني من قرى غرب رام الله ، ووالدتها إيطالية، والدها ووالدتهاانفصلا عن بعضهما البعض بسبب اختلاف الثقافات. الطالبة لا تعرف شيئا عن عائلة والدها الا اسم العائلة، لان والدتها منعت والدها من رؤية طفلته وانتلقت من المدينة وضاع اثر الوالد والطفلة. الطالبة كانت تنطق اسم عائلة والدها بشكل خاطئ، مما صعب علي معرفة العائلة. كانت شغوفة بمعرفة كل تفاصيل عائلة والدها الذي لا يعلم ان جيناته في ابنته تحركها للعودة لوطنه. كانت خائفة من انتقال ورثة والدها من الأراضي الى غول الاستيطان. واعتقد انها نجحت بالوصول الى عائلة والدها التي لا تعرف اسمه.
زائرتي لم تكن الأولى من نوعها فهناك شباب انصاف فلسطينيين وانصاف بريطانيين، او انصاف هنود او امريكان وهم كثر. كانوا ينجذبون الى اللغة العربية التي سمعوها من اباهم او امهاتهم في أيام الرومانسية. على الرغم من تعرضهم لأقلمة متزايدة الا ان وسائل التواصل الاجتماعي إعادة ربطهم بوطنهم الام. فالجينيات دساسة؟ بعض هؤلاء الشباب يتمتعون بكفاءات ومهارات عالية تطمح لتقديمها لفلسطين سواء في الطب او الهندسة او الدراسات الدولية. لكن هل من مؤسسة فلسطينية تستطيع توجيه الجينات الفلسطينية في دماء أبناء الشتات